في قلب هذا الحرّ القائظ، وفي زحمة الحياة التي لا ترحم، لم أعد أحتمل هذا الانقطاع المستمر للكهرباء. أكتب الآن ليس لطلب حلّ، ولا لأجل نقاش سياسي أو فني، بل فقط لأفضفض، لأزيح عن صدري حملًا ثقيلًا لا يُرى، لكنه ينهشني كلما انطفأ الضوء، وسكتت المراوح، وتعطلت الأجهزة، وساد الظلام.
أنا لا أشكو وحدي، بل أتكلم باسم كثيرين مثلي، ممن قرروا العمل عن بعد، فوجدوا أنفسهم أسرى لوضع لا يمكن التعايش معه بسهولة. لست وحدي من يتضرر، أنا فقط أحد الأصوات التي قررت أن تكتب، بينما آلاف أخرى تكتم الألم في صمت.
أعيش في قرية هادئة، لكنها تعاني من مشكلة كهرباء صاخبة لا تهدأ. الكهرباء هنا لا تنقطع مرة أو مرتين، بل تصل أحيانًا إلى سبع مرات يوميًا. هل تتخيل هذا؟ سبع مرات في اليوم، كل مرة تأخذ معها جزءًا من يومي، من طاقتي، من عملي، من صبري.
أعمل عن بُعد، وقد يبدو هذا للكثيرين أمرًا مريحًا، لكنه في الحقيقة صار عبئًا في ظل هذا الانقطاع المتكرر. ثلاث أجهزة كمبيوتر أصيبت بالعطب بسبب هذا الانقطاع على مدار سنوات. ثلاث خسارات لا أعلم كيف أعوضها. وكل مرة يحدث فيها عطل، أركض لإصلاحه، أدفع المئات والآلاف من الجنيهات، وأعود وأنا أدعو الله ألا يحدث الأمر مرة أخرى. لكنّه يحدث. ويعود.
اشتريت جهازًا جديدًا على أمل أن يُنقذني من الورطة، لكنني الآن لا أجرؤ حتى على تشغيله. أخاف أن يُصيبَه ما أصاب إخوته من قبله. أخاف أن يصبح خردة أخرى أضيفها إلى ركن الخسائر.
فكرت في شراء مولد كهرباء. قلت لنفسي: ربما تكون هذه خطوة استباقية للحفاظ على عملي. لكنّي اكتشفت أن الأمر أعقد من مجرد وجود كهرباء. فحين تنقطع الكهرباء عن قريتي، ينقطع معها الإنترنت تمامًا، لأن السنترال نفسه يتوقف عن العمل. ما جدوى الكهرباء إذًا إن لم تكن موصولة بالشبكة التي تربطني بالعالم؟
حتى الهاتف الذي أحاول أحيانًا أن أستخدمه في أداء بعض المهام، يكون بلا جدوى. تغيب الشبكة. فودافون لا تعمل. أورانج تعاني. الهاتف يتصل ولا يتصل، والبيانات تنقطع أكثر مما تعمل. وكلما حاولت التأقلم، وجدت نفسي أصطدم بعقبة جديدة.
العمل من الهاتف، حتى لو افترضنا أن الشبكة تعمل، ليس مريحًا. لا يُشبه العمل من على الحاسوب. لا أستطيع أن أُنجز، أن أكتب، أن أحرر الملفات، أو أتعامل مع العملاء كما يجب. لا يمكنني حتى التفكير بتركيز. الهاتف ضيق، صعب، مربك. أشعر أنني أعمل وأنا مكبل اليدين.
وأسوأ ما في الأمر، أن هذا الانقطاع لا يستأذن. قد يحدث في منتصف مكالمة عمل. أو خلال تسليم مهمة. أو عند التواصل مع عميل مهم. فجأة، كل شيء يتوقف. ينقطع الاتصال، يُغلق الجهاز، أتوقف عن العمل مجبرًا، لا مختارًا.
أما الأثر النفسي، فهو الأصعب. أشعر أنني أعيش في حالة ترقب دائم. متى ستنقطع الكهرباء؟ هل ستفاجئني في منتصف المهمة؟ هل ستتسبب هذه المرة في عطل جديد؟ هل سأضطر مجددًا لتأجيل الأعمال؟ هل سيتفهّم العملاء؟ هل سأفقد فرصًا؟ هل سيؤثر هذا على سمعتي المهنية؟
هذه الأسئلة تأكلني من الداخل. وتُبقيني في حالة توتر دائم. العمل عن بعد كان في يوم من الأيام حلمًا، وسبيلاً للحرية والإنتاج، لكنه تحول الآن إلى عبء ثقيل في ظل واقع لا يساعد.
الكهرباء لا تنقطع فقط أثناء العمل. بل كثيرًا ما تنقطع أثناء النوم. تتخيل أن تستغرق في نومك، ثم تستيقظ فجأة على عرق يتصبب منك، وحرّ لا يُطاق، ومروحة صامتة، وغرفة خانقة؟ يحدث هذا ليلًا ونهارًا. مرة عند الفجر. مرة عند الظهر. مرة وأنت في أعمق لحظات راحة. يختفي كل شيء فجأة، ويبقى فقط الضيق، والعجز، والانزعاج.
الأمر ليس فقط مشكلة "تيار مقطوع". بل هو سلسلة من الآثار المتشابكة التي تنهك الإنسان في كل اتجاه. عمل، راحة، صحة، مزاج، وحتى علاقاته. أصبحنا أكثر عصبية. أقل صبرًا. نثور لأتفه الأسباب. هذا الانقطاع يصنع فينا شروخًا صغيرة لا تُرى، لكنها مع الوقت تتسع.
أحيانًا أحاول تبرير الأمر. أقول لنفسي: ربما هو وضع مؤقت. ربما تحاول الدولة أن تُقلل الأحمال في مواجهة الحرّ الشديد. لكن حتى لو صدّقت هذا، فإن الألم لا يقل. الوضع مستمر. المشكلة تتكرر. والخسائر تتراكم. وأنا… لا أعلم ماذا أفعل.
حتى الكتابة، أصبحت أكتبها على فترات. أفتح الجهاز، أبدأ، ثم تنقطع الكهرباء، فأُغلق الجهاز بسرعة لأحميه، وأنتظر عودة التيار، ثم يعود التيار، لكن الإنترنت لا يعود. فأنتظر. وأتأخر. وربما يضيع الحماس. وربما لا أُكمل.
أتأمل حال كثير من الناس ممن يعملون مثلي على الإنترنت. كُتاب. مصممون. مطورون. موظفو دعم. مسوّقون. مترجمون. محررون. أصحاب متاجر إلكترونية. هؤلاء كلهم يعتمدون على الكهرباء والشبكة في مصدر دخلهم. ما الذي يفعلونه الآن؟ كيف يتعاملون مع كل هذا؟ كم منهم خسر عملاءه؟ كم منهم فقد دخله؟
ليست الخسارة دائمًا في المال. هناك خسائر في المعنويات، في الإحساس بالاستقرار، في الشعور بالكفاءة. كيف تشعر بأنك موظف منتج بينما التيار يُطفئك كل ساعة؟ كيف تطلب من نفسك الإبداع وأنت في حالة انتظار دائم لعودة الكهرباء؟
أتحدث عن نفسي، لكنني أعرف أن هناك مئات القصص تشبه قصتي. وربما أسوأ. هناك من لا يستطيع شراء جهاز جديد. من لا يملك حتى رفاهية شراء مولد كهربائي. من يعاني من أمراض مزمنة وتؤذيه الحرارة الشديدة. من لديه أطفال لا يحتملون هذا الوضع. من يُعاني نفسيًا ولا يجد مهربًا.
القرى تعاني أكثر. المدن قد تُخفف عنها الانقطاعات. لكن القرى؟ لا أحد يسأل عنها. أحيانًا أشعر أننا نعيش في زمن مختلف. كأن الزمن توقف عندنا. لا خدمات. لا اهتمام. لا إنترنت. لا كهرباء.
أكتب لأفضفض، لأصرخ صامتًا، لأقول إننا نتأذى. نحن نحترق في صمت. لا نطلب معجزات. فقط القليل من الاستقرار. قليل من التيار المنتظم. قليل من الشعور بالأمان. أن تعرف متى تنقطع الكهرباء، ومتى تعود، كي تُخطط ليومك. ألا تفاجئك انقطاعات بلا مواعيد، بلا رحمة.
لا أُريد أن أكون ذلك الشخص الذي يُصدر طاقة سلبية في كل مرة يتحدث فيها. لكنّني أيضًا لا أستطيع أن أكون متفائلًا بينما الخسائر تتوالى. أحتاج فقط إلى مساحة للقول، للبوح، للتنفيس. ربما لا تُغيّر كلماتي شيئًا، لكنها تُخفف عني قليلًا. هذا كل ما أملكه الآن.
ربما يمر هذا الوقت، وتتحسّن الأمور. ربما أقرأ هذا المقال بعد سنوات وأبتسم لأن المشكلة قد أصبحت من الماضي. وربما لا. لكنني، الآن، في هذه اللحظة، أكتب وأنا أبحث عن نور، لا في المصباح، بل في الداخل.
نورٌ يعيد إليّ القدرة على الصبر، على الاستمرار، على تحمل ما لا يُحتمل.
لمن يعيش هذا الواقع مثلي: لست وحدك. أنا معك. نشعر سويًا بالضيق، بالخذلان، بالحرمان. نكتب ونصرخ ونصمت ونحاول أن نكمل رغم كل شيء. أنت قويّ، حتى لو شعرت بالهشاشة. أنت صامد، حتى لو كنت تبكي كل ليلة في الظلام.
هذه ليست مجرد أزمة كهرباء. هذه أزمة إنسانية تُطفئ فينا أشياء كثيرة.
لكننا رغم كل شيء… ما زلنا نحاول.