كأنني كنت أختنق بالبكاء، لا دموع عادية ولا وجع عابر، بل ذلك النوع من البكاء الذي يلتف حول القلب ويعتصر الروح، حتى أحسست أنني سأستفرغ أحشائي من شدة الألم. لكنني لم أمت. لم ينتهِ الألم. ولم يشعر أحد.
وهنا تبدأ الحكاية ـــ الحكاية التي لا تُروى للناس، لأنهم لن يفهموا. لأن ما أعيشه لا يُرى بالعين، بل يُحسّ في عمق النفس التي انهارت مراتٍ كثيرة، ثم أعادت لملمة شظاياها في صمتٍ عميق.
كل ما أريده، ببساطة لا تحتمل الشرح، أن أتعافى. أن أشفى من آثار الأيام القاسية التي مرت بي وكأنها عاصفة اجتثت جذوري من الأرض. أن تزول الجروح التي حفرتها الحياة في داخلي حتى أصبحت جزءًا من تكويني. أريد أن أنسى ما أبكاني، لا لضعف في الذاكرة، ولكن لأتجاوز. لأعيش. لأضيء من جديد، ولو بشغفٍ مختلف، بقلبٍ سليم، بروحٍ لا تزال قادرة على النبض.
كيف لي أن أشرح؟
كيف أقول دون أن يبدو أنني أبالغ؟ أنا متعب، مرهقٌ حد الانكسار. لا من موقف بعينه، بل من كل شيء. من الطريق الطويل، من الناس الذين يمرون مرور الطعنات، من الأحلام التي لا تتحقق، من الحذر الذي استنزف عفويتي، من التردد الذي التهم قراراتي، من قلة الحيلة التي تصفعني كل يوم.
أنا متعب من الغد، وهو لم يأتِ بعد. ومن الأمس، وهو انتهى لكنه ما زال يطاردني في الذاكرة. متعب من الوعود التي لم تتحقق، من الصبر الذي تآكل، من التعقل الذي خنق اندفاعي، ومن التأنّي الذي سرق العمر.
كل هذا أعيشه بصمت. لا أحد يدرك. لا أحد يلاحظ. وربما لا أحد يهتم.
في بعض اللحظات، أشعر أنني داخل دائرة مغلقة، تدور بي دون توقف. لا مخرج. لا هواء نقي. مجرد دوران لا ينتهي حول ألمي، حزني، فقدي، خيبتي. أشعر أنني محاصر، لا لأن أحدًا يحبسني، بل لأنني لا أملك مفاتيح النجاة. لأن قلبي تقوقع على نفسه، وعقلي أرهقته الأسئلة التي لا إجابات لها.
ولأنني أُواسي الجميع.
نعم، أنا ذاك الشخص الذي يهمس للأصدقاء بأن الأمل لا يزال موجودًا، بأن الشمس ستشرق، وأن الله كريم. أقولها لهم وابتسم. ولكن عندما يحل الليل، وتخفت الأصوات، أتأمل خيباتي، أحصي أحلامي الضائعة، وأشعر أنني وحيد أكثر من أي وقتٍ مضى.
لا أريد شيئًا كثيرًا، صدقًا. فقط بعض السلام.
سلام لا يعني انعدام المشاكل، بل يعني قلبًا قادرًا على مواجهتها دون أن ينكسر. أريد أن أتنفس دون خوف. أن أعيش دون انتظار. أن أفرح دون قلق من أن الحزن قادم لا محالة.
لقد تعبت من حمل نفسي طوال هذا الطريق. من الادعاء بأنني بخير، وأنا في الحقيقة ممزق من الداخل. من كوني ذلك الشخص القوي الذي يُتوقع منه أن يتماسك دائمًا. أن يصمد. أن يُساند. بينما لا أحد يسندني.
كم هو مرهق أن تشعر أنك تفهم الجميع ولا أحد يفهمك. أن تمتلك القدرة على الغوص في أعماق الآخرين، وشفاء جروحهم، بينما لا يستطيع أحد حتى أن يرى الجرح فيك. أن تعتاد الوحدة، حتى وهي وسط الزحام.
كلنا نلبس الأقنعة. نبتسم بينما القلب يبكي. نمضي بينما أرواحنا تتأرجح على حافة السقوط. ولا أحد يرى. لأنهم اعتادوا الصورة التي رسموها لنا، لا حقيقتنا.
أنا لا أطلب الكثير.
فقط أن أكون بخير.
أن أصحو ذات يومٍ خفيفًا، بلا وجع.
أن أضحك ضحكة صافية لا يخنقها شيء.
أن أجد نفسي. أن أصفح عنها. أن أحتضنها.
الليل طويل. والأفكار فيه أطول.
وفي عمقه، أجلس وحدي، أُعيد قراءة فصولي القديمة، أتذكر ذلك الطفل الذي كنتُه، الذي كان يحلم، يثق، يحب بصدق. كم اشتقت إليه! كم أريد أن أرجع إليه وأقول له: "سامحني لأنني خذلتك، لكنني كنت أحاول أن أنجو."
أن تنجو…
يا لها من كلمة عظيمة وثقيلة.
النجاة لا تعني الوصول، بل الاستمرار.
أن تُكمل رغم كل ما فقدته، رغم كل من خذلك، رغم كل الأحلام التي انكسرت، والطرق التي لم تُفتح.
النجاة هي أن تحب نفسك بعد أن كرهتها. أن تنظر في المرآة ولا تكره ما ترى. أن تحتفل بكونك ما زلتَ هنا، رغم كل شيء.
وفي كل مرة أظن أنني انتهيت، أنني لن أستطيع المضي أكثر، يحدث شيء بسيط، كلمة، موقف، ذكرى… تشعل داخلي شعلة خافتة من الأمل. فأمضي. أخطو خطوة أخرى، رغم الألم، رغم الخذلان، رغم التعب.
ربما في النهاية، كل ما نحتاجه هو لحظة صدق مع أنفسنا.
لحظة نكفّ فيها عن التمثيل.
لحظة نقول فيها لأنفسنا: "أنا لست بخير… لكنني سأكون."
لحظة نسمح فيها للدموع أن تنزل دون خجل، لأنها تغسل أرواحنا من الداخل.
هذه الحياة قاسية، نعم.
لكننا أقسى.
لأننا نحب رغم الانكسار.
نحلم رغم الخيبات.
نُضيء رغم العتمة.
في النهاية، أنا لا أكتب هذه الكلمات لتقرأها فقط، بل لأرتاح بها. لأُخرج من داخلي هذا الألم المتمرد.
ربما لن يتغير شيء.
لكن الكتابة بوحٌ… والبوح بداية الشفاء.
ربما… ربما غدًا، أضيء من جديد.
ربما أجد السلام في مكانٍ ما، في لحظةٍ ما، في حضن صادق أو دعاء خفي.
وربما كل هذا مجرد أمل… لكنه يكفيني لأُكمل اليوم.