recent
أخبار ساخنة

محرك بحث جوجل (Google search)

غصة لا تُكتب

Mahmoud
الصفحة الرئيسية
رسم كرتوني لشاب يجلس بصمت، مغمض العينين، ملامحه حزينة، ويده موضوعة على صدره، في خلفية يغلب عليها اللونان البنفسجي والأزرق بتدرجات هادئة توحي بالحزن والتأمل.

هناك شيءٌ في صدري لا يُكتب، يختبئ كظلّ ثقيل لا يعرف النور، وكلما حاولتُ أن أمدّ يدي إليه، أن أفك طلاسمه، أن أخلعه من داخلي كشوكةٍ عالقةٍ في الحلق، يعود أكثر حِدة، أكثر قسوة، كأنّه يقول: "إن اقتربتَ منّي أكثر، سأمزّقك من الداخل."

أكتب، وأكتب، وأكتب… أملًا بأن تنزف الحروف ما لا أقدر على قوله، بأن تأخذ عني بعضًا من ثقل الشعور، ولكن لا شيء يحدث. أعود دائمًا بخيباتٍ أشد، ووجعٍ لا اسم له، كأنّي كنتُ أُجري عمليةً جراحية بلا مخدّر، بلا نجاح.

ليست كل المشاعر مهيّأة للكلام. هناك وجع يرفض أن يُحاصر في جملة، أن يُسجن في فقرة. هناك شعورٌ خام، غضّ، متوحّش، لا يصلح للنشر، لا يصلح للمشاركة. شيءٌ يشبه الأسرار القديمة، المدفونة في أعماق الروح، لا لشيء، فقط لأنها تؤلم.

كم مرة شعرت أن ما في صدرك أكبر من أن يُحكى؟ أنك لو نطقتَ به، ستنهار؟ أنك لو واجهته وجهًا لوجه، ستفقد توازنك تمامًا؟ هذا هو ما أهرب منه. ذلك الشيء الذي يسكنني ولا اسم له. لا وجه، لا صوت، لكنه حاضر دائمًا، مثل ظلٍّ لا يفارقني حتى حين أغلق عيني.

أحيانًا أُحدّث نفسي: ما الذي تخشاه يا ترى؟ لمَ كل هذا الجبن؟ افتح هذا الصندوق المغلق في داخلك، اخرج منه ما تريد، ارتَح! لكن الحقيقة؟ لا أريد أن أفتحه. لأنني أعرف، أعرف تمامًا، أنني لن أخرج منه سالمًا.

أدّعي القوة كثيرًا. أبتسم حين لا داعي للابتسام. أتحمل ما لا يُحتمل. ألبس قناع "الكل بخير" رغم أنني لا أشعر بأي خير داخلي. كأنني شخصان، أحدهما يعيش للخارج، والآخر يئنّ في الداخل بلا صوت.

جربت كل الطرق. الكتابة، العزلة، الانشغال، الضحك، البكاء في الخفاء، حتى التجاهل. لكن لم تنجح وسيلة واحدة في إطفاء هذه النار الصغيرة المتقدة في قلبي. بل أحيانًا أشعر وكأنها تزداد كلما حاولت أن أنساها. وكأن نكراني لها يُغضبها أكثر، فيُشعلها أكثر.

أي نوعٍ من الألم هذا الذي لا يرتبط بذكرى واضحة؟ لا مشهد محدد، لا جرح واضح المعالم؟ فقط شعور عالق في القلب، كحجرٍ في الحنجرة، لا يزول ولا يُفَسَّر.

الناس من حولي لا يفهمون. كيف يشرح الإنسان شيئًا لا يفهمه هو؟ كيف أقول "أنا موجوع" دون أن يسألني أحدهم "لماذا؟". والكارثة أنني لا أعرف لماذا! فقط أنا موجوع، وهذا يكفي.

أشعر أحيانًا أنني وُلدت مع هذا الألم. كأنه جزء من تكويني، من روحي. لا أفهم نفسي بدون هذا الوجع، ولا أعرف كيف أكون بدونه. وهذا ما يُخيفني. أن أكون قد تعوّدت عليه لدرجة أني لا أستطيع العيش بدونه، رغم أنه يؤلمني!

كم مرة قلت لنفسي: "بكرة تتحسن الأمور"، ومرّ البُكرة دون أي تحسن؟ كم مرة حاولت أن أصدق الكليشيهات الرائجة: "الزمن كفيل بكل شيء"، "كل شيء سيكون على ما يُرام"، لكني كلما مشيت في الزمن، زادت المسافة بيني وبين "ما يُرام".

تعبت. من الانتظار، من التظاهر، من الكتابة التي لا تُخرج شيئًا. من التفكير المفرط. من الأمل الذي ينكسر كل مرة ولا أملك إلا أن أرممه وأحمله من جديد.

لم أعد أريد أن أكون قويًا. لم أعد أطمح إلى أن أُبهر أحدًا بصبري أو صلابتي. أريد فقط أن أتنفّس، أن أشعر أنني بخير دون أن أُقنع نفسي بذلك. أن أعيش دون أن أحمل فوق ظهري هذا الثقل الذي لا يعرف اسمه أحد.

أحيانًا أشتهي حضنًا لا يسأل، لا يلوم، لا ينصح. فقط يحتويني بصمت. يقول لي: "أعرف أنك موجوع، ولا بأس ألا تتكلم." حضنٌ يفهم أن هناك وجعًا لا يُروى، لا يُخفف بالكلام، فقط يحتاج لأن يُحتضن.

أشتاق إلى طفولتي، حين كنتُ أبكي دون أن أشرح. حين كان حضن أمي يشفي كل شيء، دون أن أفهم لماذا كنت أبكي أصلًا. كبرتُ، وكبر الوجع، ولم يعد هناك من يحتضن دون سؤال.

كلما حاولت أن أتجاوز، أن أمضي، أن أتجاهل، يعود إليّ هذا "الشيء" من جديد. يطرق على صدري في منتصف الليل. يُربكني في وضح النهار. يُعكر صفو لحظة كنتُ أظن أنني فيها بخير. كأنه يقول: "أنا هنا، لا تنساني."

وقد لا أريد أن أنساه. قد يكون هذا الوجع هو الشيء الوحيد الصادق الذي أشعر به وسط هذا الزيف. هو الشيء الوحيد الذي لا يخدعني، لا يتجمّل، لا يُنافق. إنه موجع، لكنه حقيقي. ربما لهذا أتمسّك به، حتى لو لم أعترف بذلك.

أحيانًا أفكر… ماذا لو استطعت أن أخرجه من صدري؟ هل سأُشفى؟ أم أنني سأشعر بفراغ أعمق؟ هل هذا الألم هو ما يُبقيني حيًا؟ هل هو ما يربطني بذاتي؟ هل يمكن أن أعيش يومًا بدونه ولا أشعر أنني غريب عن نفسي؟

ليست كل الأجوبة متاحة. ليست كل الأسئلة قابلة للفهم. أنا فقط أكتب لأبقى واقفًا. أكتب لأني لا أريد أن أنهار. أكتب لأني لا أملك شيئًا آخر أفعله أمام هذا الإعصار الذي يسكنني.

ورغم كل شيء، أحتفظ بشيء صغير في داخلي… شيء يشبه الأمل، لكنه لا يُشبهه تمامًا. أشبه ببصيص خافت في عمق نفقٍ طويل. لا أدري إن كان وهمًا أم حقيقة، لكنه يُبقيني على قيد المحاولة.

أكتب، وسأبقى أكتب، حتى وإن لم أُشفى. حتى وإن لم أجد ذلك "الشيء" الغامض في صدري. لأن الكتابة هي الطريقة الوحيدة التي أستطيع أن أقول بها لنفسي: "أنا هنا… ما زلتُ أحاول."

…وما زلتُ أحاول، رغم كلّ شيء.

أحاول ألّا أفقد نفسي بين الزحام. أن أحتفظ بجزءٍ صغيرٍ لم تلوثه الخيبات، ولم تمسّه الخيانات، ولم يطأه الإنهاك. جزءٍ أستطيع أن أعود إليه متى شعرت أنّ هذا العالم ضيّقٌ حدّ الاختناق، وأنّ كلّ الطرق مُغلقةٌ في وجهي.

لا أحد يرى هذا الصراع. لا أحد يعرف كم من الحروب أخوض كلّ يوم داخل رأسي. كم من النداءات أكتمها كي لا تُسمع، كم من الانهيارات أرمّمها بصمتٍ كي لا تزعج الآخرين، كم من الليالِ أنام فيها وأنا أحضن قلبي المكسور وأتظاهر بالنوم.

ليس من السهل أن تكون صامتًا وأنت في داخلك تصرخ. ليس من السهل أن يراك الجميع واقفًا بينما تنحني داخلك مئات المرّات. تتظاهر أن كلّ شيءٍ على ما يرام، فقط لأنك لا تملك رفاهية الانهيار. لا أحد سيحملك إن سقطت، ولا أحد سيُنقذك إن غرقت، لذا تتعلّق بأيّ شيءٍ لتبقى على السطح.

الغريب أنني فقدت القدرة على البوح. كلّما حاولتُ أن أتحدث، أحسست أنّ الكلمات تخونني. لا تُعبّر. لا توازي هذا الثقل. كأنها مفرغة، لا تحمل قيمةً حقيقية، ولا تستطيع أن توصل الشعور كما هو. فيغدو الصمت أصدق من الكلام، والوجع أصدق من الشرح.

هل يمكن أن يكون الإنسان مجهولًا لنفسه؟ أن يحمل في داخله كل هذه الفوضى دون أن يملك مفاتيحها؟ أظن أنني كذلك. أمشي في هذه الحياة وأنا لا أعرف تمامًا من أكون، ولا إلى أين أذهب، ولا ماذا أريد. كلّ ما أعرفه أنني موجوع، وأنني أحاول أن أبدو طبيعيًا، وهذا بحد ذاته مجهودٌ هائل.

أحيانًا أتمنّى أن أكون شخصًا بسيطًا، لا يُفكّر كثيرًا، لا يحمل فوق قلبه أطنانًا من الأسئلة، لا يُقلقه الغد، ولا يُطارده ماضٍ غامض. شخصٌ يعيش اللحظة، يضحك، ويأكل، وينام، دون أن يضطر إلى أن يبرّر لروحه لماذا تستيقظ كل يوم وهي متعبةٌ دون سبب.

أنا تعبت من الصمت. لكنّي أيضًا مرهقٌ من الكلام. وكأنني عالقٌ في حلقةٍ مفرغة، لا إلى هذا ولا إلى ذاك. فقط في المنتصف. في المنطقة الرمادية التي لا تُفهم، ولا يُعبّر عنها، ولا تُقدَّر.

لكنّ أكثر ما يُوجعني هو الشعور بالوحدة وسط الناس. أن تكون محاطًا بضحكاتهم وكلماتهم، ومع ذلك تشعر أنك وحدك تمامًا. لا أحد يرى ما خلف عينيك، لا أحد يسمع صوت قلبك حين يرتجف، لا أحد يشعر بثقلِ أن تستيقظ كل يوم وأنت تتمنّى لو أنه لم يكن.

وهذا الوجع الذي في صدري… لا أعرف كيف أشرحه. لا هو حزنٌ تقليدي، ولا هو اكتئابٌ واضح، ولا هو قلقٌ مباشر. إنه مزيجٌ من كل ذلك، وأكثر. إنه غربةٌ داخلية، تشبه أن تكون غريبًا في وطنك، غريبًا في جسدك، غريبًا في نفسك.

أحيانًا أحسد الذين ينهارون، الذين يبكون علنًا، الذين يصرخون من شدة الألم. على الأقل يملكون منفذًا. أما أنا، فكلّ شيءٍ عالقٌ في الداخل، لا يعرف الطريق للخروج، وكأنني بنيت لنفسي جدرانًا لا تُرى، وسُجنت داخلها دون مفتاح.

أشتاق إلى لحظة صدقٍ واحدة. لحظة أقول فيها كلّ ما في داخلي دون خوفٍ أو تردد، دون أن أختار كلماتي بعناية، دون أن أُخفي الحقيقة خلف قناع. أريد أن أقول "أنا لست بخير"، وألا يُقابلني أحدهم بـ "لكن حاول"، أو "كلنا هكذا"، أو "الأمور ستتحسن". أريد فقط أن يُقال لي: "أنا أفهمك"، ويُترَك لي الحق في أن أكون مكسورًا دون إصلاح.

لكن يبدو أنّ حتى هذا كثير.

أحيانًا أحاول أن أُذكّر نفسي بالأشياء الجميلة. بتلك اللحظات النادرة التي شعرتُ فيها أنني أتنفس بحرّية، أنني خفيف، أنني سعيد حقًا. أستحضرها، أتمسّك بها، علّها تُنقذني. لكنّها قصيرة، ضئيلة، ضائعة بين أكوام التعب.

ومع ذلك، أُقاوم.

أُقاوم لأني لا أريد لهذا "الشيء" أن يربح. لا أريد أن أتحوّل إلى نسخةٍ باهتة من نفسي. لا أريد أن أغرق في العتمة دون رجعة. لذلك أكتب، لأن الكتابة هي التّنفس الوحيد المتاح، ولأنها تُربكني وتُنقذني في الوقت ذاته.

الكتابة لا تُشفي، لكنها تُواسي. لا تُداوي، لكنها تُخفّف. لا تُنهي الألم، لكنها تجعله أكثر احتمالًا.

وربما، فقط ربما، لو كتبت بما يكفي، سيظهر لي هذا "الشيء" أخيرًا. سيخرج من ظلاله، من أعماقي، وسأعرفه، وأفهمه، وأسامحه، وأتخلص منه.

لكن حتى يحين ذلك، سأكتب.
سأكتب كل يوم، حتى لو تكرّرت الكلمات، حتى لو تشابهت الجُمل، حتى لو لم أُضف شيئًا جديدًا. سأكتب لأنني لو توقفت، سأختنق.
وسأبقى أقول لنفسي:
حتى وإن لم يختفِ الوجع، فأنا أستحق أن أعيش.
حتى وإن لم أفهم كل ما في داخلي، يكفي أنني أحاول.
والمحاولة، في حد ذاتها، شجاعة.
google-playkhamsatmostaqltradent