أظلّ أنصح غيري، وأتظاهر بأنني ذلك العارف بكل شيء، الخبير بخبايا النفوس، وأنا في الحقيقة أكثر من يحتاج إلى رعاية نفسية. لا أحد يعلم أنني حين أواسي الآخرين، فإنني أضمّد جراحهم بكلمات مستخرجة من جروحي. أقول لهم ما أتمنى لو قاله لي أحدهم ذات يوم. أمدّهم بالثبات، وأنا على وشك الانهيار. أذكّرهم بأن الغد أجمل، وأنا لا أستطيع رؤية الغد أصلًا.
أقول لهذا: تماسك… وأقول لذاك: اصبر…
وأنا؟
أنا صابر.
نعم، صابر منذ وقتٍ طويل، طويلٍ كأنه امتداد العمر ذاته.
كأنني أنتظر شيئًا لا أعرف ماهيته، ولا متى سيأتي، أو إن كان سيأتي أصلًا.
إنني أعيش على حافة الانتظار، أتنفس وهم الوصول، وأحاول أن أقنع نفسي أن الثبات انتصار.
كان لدي حلم…
نعم، كان.
كنت أحلم بحياة أعيشها كما أحب، أعمل فيها، أحقق ذاتي، وأشعر بها نبضًا في قلبي لا مجرّد دقّات باهتة.
لكن المشكلة الكبرى أنني، بمرور الوقت وكثرة الإحباط، نسيت شكل تلك الحياة.
نسيت ملامح الحلم.
وكأن الحزن سرق من ذاكرتي حتى الأمل.
لم أعد أتذكر متى كنت سعيدًا بصدق.
ربما لم أكن.
أو ربما كنت، لكن الحياة ماهرة في طمس التفاصيل الجميلة، وتضخيم الخيبات.
أحيانًا أنظر في المرآة ولا أعرف من هذا الذي يحدّق فيّ.
أين ذهب ذاك الشخص الطموح؟
الذي كان يخطط، ويرسم، ويحلم بلا خوف؟
هل غادرني في لحظة انكسار، أم تلاشى تدريجيًا مع كل خيبة؟
لقد تعبت…
تعبت من ارتداء الأقنعة.
تعبت من تكرار العبارات التي أحفظها عن ظهر قلب لأواسي بها الآخرين.
كأنني آلة مواساة بشرية، تعمل للجميع، وتتآكل من الداخل دون صوت.
أخشى أن أصبح مجرد ظلّ لإنسان كان يومًا ينبض بالحياة.
وأخشى أكثر أن يكون هذا قد حدث بالفعل.
أحيانا أتمنى لو أُصاب بانهيار واضح…
صريح…
انهيار لا يُخفيه اتزانٌ مصطنع أو ابتسامة متعبة.
انهيار يوقظ من حولي، يصرخ في وجوههم: هذا الإنسان بحاجة للمساعدة.
لكنني متماسك…
أو بالأحرى، أبدو كذلك.
الفرق كبير بين أن تكون بخير، وأن تُجيد التظاهر بذلك.
وأنا – للأسف – أصبحت ماهرًا في الثانية، حتى ظننتني بخير فعلًا.
حتى صدّقت الكذبة التي أطلقتها ذات مرة لتطمين أحدهم.
الحياة لم تكن بهذه القسوة دائمًا.
لكنها مع الوقت، تعلّمت كيف تُحكم قبضتها على نقاط ضعفنا.
كيف تضرب حيث نخجل أن نصرخ.
كيف تُغرقنا في الصمت.
منذ فترة، لم أعد أتفاعل مع الفرح كالسابق.
وكأن مشاعري فقدت بريقها.
حتى اللحظات التي كانت تُفرحني، أصبحت تمرّ عليّ وكأنها واجب اجتماعي لا أكثر.
هل فقدت الشغف؟
أم أنني فقدت نفسي؟
أم أن هذا هو النضج الذي يروّجون له؟
أحيانًا أسأل نفسي: ماذا لو اختفيت؟
هل سيتغير شيء؟
هل سيسأل أحدهم عن غيابي؟
أم أنني مجرد وجود ثانوي في حياة الآخرين، يُشعَر بفراغه للحظات، ثم يُستبدل؟
مرّت عليّ أيام تمنّيت فيها أن أكون أنا المُواسَى، لا المُواسي.
أن يُقال لي: لا بأس، نحن هنا.
أن يحتويني أحدهم كما أحتويت الجميع.
لكن لا أحد انتبه.
الذين اعتادوا مني الصبر، لا يتخيّلونني ضعيفًا.
الذين استمدّوا مني قوتهم، يعتقدون أنني لا أحتاج أحدًا.
وكأن دور المنقذ يمنعك من الغرق.
أعترف الآن:
أنا لست بخير.
وأنا لا أبحث عن شفقة، ولا عن اهتمام عابر.
كل ما أريده، هو أن أسمع صوتًا صادقًا يقول لي: "أنت مهم، ولو لم تقل شيئًا".
لماذا لا يُعطى الراعي راعيًا؟
لماذا يُطلب من الأقوياء دومًا أن يبقوا صامدين، ولو كسرهم الداخل؟
هل نحن آلة للعطاء؟
أم أن عطاءنا حجب احتياجاتنا؟
لقد تعبت من كوني ذلك الشخص الذي يُفترض به أن يكون بخير دائمًا.
الذي يُسأل دومًا: كيف حالك؟
دون انتظار الإجابة.
فهم يعرفون مسبقًا ما سيقوله: "أنا بخير".
وكأنها فرض لا بد منه، لا جملة تصف الواقع.
أنا أشتاق لنفسي القديمة.
أشتاق لمن كنت عليه قبل أن أُنهك.
أشتاق لطفلي الداخلي، ذلك الذي كان يضحك بعفوية، ويحزن ببساطة، ويحلم دون حسابات.
لكن يبدو أن الحياة نسختني بصيغة أكثر صمتًا، أكثر وعيًا، وأكثر ألمًا.
ووسط كل هذا، أحاول أن لا أفقد إنسانيتي.
أن لا أقسو، حتى حين يُقسى عليّ.
أن أُبقي في قلبي بقعة للضوء، مهما خفت.
أتساءل أحيانًا: هل الحديث عن الألم ضعف؟
أم شجاعة؟
هل اعترافك أنك تحتاج أحدًا، يُقلل منك؟
أم يقرّبك من ذاتك؟
أكتب الآن وأنا لا أدري من سيقرأ، ولا متى.
لكنني أكتب، علّ الكتابة تُخرج بعضًا من هذا الثقل.
علّ الحروف تُربّت على كتفي، حين لم يفعل أحد.
كل ما أريده اليوم…
هو حضن.
حقيقي.
صامت.
يقول لي دون كلمات: لا بأس.
ثم بعد ذلك، لا أريد شيئًا.
لا تفسيرًا، لا وعودًا، لا خططًا…
فقط لحظة واحدة أشعر فيها أنني مرئي، أنني حاضر، أنني لست عبئًا على أحد، ولا مجرد ظلّ يمرّ في الخلفية.
لكنني تعلّمت الصمت.
الصمت الذي لا يُزعج أحدًا، ولا يطلب شيئًا.
الصمت الذي يبدو هدوءًا، وهو في حقيقته استغاثة.
فأنا الشخص الذي يبتلع حزنه كل ليلة، ويُطفئ أنينه تحت وسادته كي لا يُزعج الآخرين.
لم أعد أجيد البوح.
لم أعد أملك الطاقة لأن أشرح ما بي، أو أفتح أبوابًا أغلقها بصعوبة كل مرة.
فمن لا يفهم حزني من نظرة، لن يفهمه من حديثٍ طويل.
ومن لا يشعر بي من دون أن أتكلم، لن يُجدي معه حديثي.
كبرت كثيرًا على أن أطلب الاهتمام، وصغرت كثيرًا أمام شعوري بالوحدة.
أنا عالق بين نُضجٍ مرهق، وطفولة مهملة لم تُشبع حنانها.
أبدو قويًا…
لكنني هشٌّ جدًّا من الداخل.
هشٌّ لدرجة أن كلمة طيبة قد تبكيني، ونظرة صادقة قد تُنقذني.
كل ما كنت أريده يومًا، لم يكن معجزات.
كنت أريد من يسمعني بحق، لا من ينتظر دوره في الحديث.
كنت أريد من يحتويني، لا من يحاول إصلاحي.
كنت أريد من يقول: "أنا هنا"، ويبقى فعلًا، لا فقط بالكلمات.
لكن الحقيقة أن الكثيرين مرّوا، وقليلين فقط بقوا.
والأقل… فهموني.
حتى أقرب الناس إليّ، يرون فقط ما أسمح لهم برؤيته.
لا أحد يعرف كم من الليالي بكيت دون سبب واضح.
كم مرة ابتسمت وأنا محطم، وضحكت في حين كان داخلي يصرخ.
أحيانًا أستغرب: كيف يُمكن لكل هذا الألم أن يتعايش مع الحياة اليومية؟
كيف أذهب إلى عملي، أُجامل هذا وأواسي ذاك، وأشارك الآخرين أحاديثهم العادية، وكأنني لا أحمل على ظهري جبالًا من التعب؟
ربما اعتدت.
اعتدت أن أعيش بنصف روح.
أن أكون حيًا، لا أكثر.
لكن هل هذا يُسمى عيشًا حقًّا؟
الحياة صارت مجرّد تكرار.
أستيقظ، أرتدي قناع التماسك، أؤدي دوري، ثم أعود إلى صمتي.
وما بين هذا وذاك، أُداري قلبي بكلمات لا تُشفي، لكنها تؤجل الانهيار.
لا شيء يبقى كما هو.
أعلم ذلك.
لكنني تعبت من الانتظار.
تعبت من الصبر الذي لا يبدو له أفق.
حتى الرجاء صار عبئًا، وحتى الحلم، صار يحتاج إلى طاقة لا أملكها.
وأكثر ما يؤلمني، أنني لم أكن هكذا.
كنت أملًا يمشي، قلبًا يُضيء ما حوله.
فكيف وصلت إلى هذا البرود؟
كيف أصبحت لا أبالي إن تحقق الحلم أو مات؟
ربما لأنني حلمت كثيرًا وخذلتني الأحلام.
أحببت كثيرًا وخذلتني القلوب.
أعطيت كثيرًا ولم أجد ردًّا يُشبه عطائي.
تعبت من المعادلات المختلة.
من علاقاتٍ تستهلكني أكثر مما تُرمّمني.
وأصبحت الآن، أُبقي مسافة.
مسافة بيني وبين الناس.
بيني وبين ذاتي.
مسافة بين القلب والعقل، حتى لا أعود ضحيةً لتوقّعاتي.
أُراقب الآخرين من بعيد.
كيف يضحكون، يشتاقون، يحلمون…
وأتساءل: هل هذا حقيقي؟
أم أن الجميع يُتقن دوره كما أفعل؟
الوجوه الكثيرة التي تمرّ، كلها تحمل شيئًا من الخذلان.
والقلوب التي عبرت قلبي، كلها تركت فيه شيئًا من الوجع.
لكن رغم كل شيء، ما زال في داخلي بقية إنسان.
إنسان يبحث عن لحظة صدق، عن كلمة تُعيد إليه بعض ما فقد.
عن حضن دافئ لا يسأل، لا يُحلّل، لا يطلب شرحًا… فقط يحتوي.
عن أحدٍ لا يُفاجأ حين أقول له: "أنا لست بخير"، بل يُجيب ببساطة: "ولن تكون وحدك بعد الآن".
أكتب الآن لأتذكّر…
أنني ما زلت هنا.
أنني ما زلت أملك شيئًا أكتبه، وإن كان حزنًا.
فما يُكتب، لا يموت.
والكلمات قد تُنقذ من لا يستطيع النجاة وحده.
أكتب كي لا أنطفئ تمامًا.
كي أُبقي على فتيل منّي مضاء.
كي لا أستسلم لهذا الفراغ الذي يُحاول التهام روحي.
أكتب لأن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي لم يخذلني بعد.
لم تُجاملني، ولم تطلب مني أن أكون بخير لأمارسها.
كانت معي حين لم يكن أحد.
سمعتني حين صمت الجميع.
وها أنا أكتبك، أيها الألم.
بصدق، وبلا رتوش.
أكتبك لأنك أكثر ما سكنني، وأقل ما تحدثت عنه.
لكنني لا أُريدك أن تبقى.
يكفيني أنك كنت، ولا أريدك أن تكون غدًا.
أُريد أن أتحرر منك، لا أن أتصالح معك.
أريد أن أعود خفيفًا، كما كنت.
أريد أن أضحك بصدق، لا لأنهم قالوا لي: "ابتسم".
أُريد أن أُحب الحياة من جديد، لا أن أُجاملها.
أن أعيش، لا أن أؤدي دور العيش.
أن أتنفس بلا ثقل، وأستيقظ دون أمنية بالنوم الأبدي.
وربما…
ربما يكون هذا النص خطوة.
خطوة صغيرة نحو النجاة.
نحو ضوءٍ ما، حتى لو كان بعيدًا.
المهم أنني بدأت أسير، ولو بالكلمات.
قد لا تُغيّر الكتابة الواقع، لكنها تُغيّرنا نحن.
تمنحنا لحظة صدق نادرة في عالمٍ مزدحم بالإنكار والتظاهر.
وقد لا يسمع أحد صرختنا، لكننا حين نُخرجها على الورق، نُخفّف عبئها من القلب.
فإلى كل من يُشبهني في هذا الصمت الثقيل...
إلى من يُجيد الإنصات للآخرين، ولا يجد من يُنصت إليه...
إلى من تعب من القوّة، وتشوّق لضعفٍ آمن...
أقول:
لست وحدك، وإن ظننت ذلك.
صوتك مسموع، حتى وإن لم تجد له صدى الآن.
وصدقني، سيأتي يوم تُشرق فيه روحك من جديد، لا لأن الحياة أصبحت أسهل، بل لأنك صمدت رغم كل شيء.
فقط تمسّك بتلك الشعلة الصغيرة بداخلك.
ولا تخف من البوح.
فأنت تستحق أن تُنصت إليك الحياة، كما أنصتّ لها طويلًا.