رأيته واقفًا بثبات، في أواخر الأربعينات من عمره، وكان يبدو كمن عبر بحار التعب ووصل أخيرًا إلى شاطئٍ هادئ. وجهه الوديع يخبرك أنه بلغ السلام بعد صراع، وأنه الآن يعتني بنفسه، بجسده، وطمأنينة قلبه، كأنما بدأ للتوّ في الاستمتاع بالحياة التي طالما راوغته. لم يكن فاره الثياب، لكنه كان أنيق الحضور، متوازن الخطى، هادئ النَفَس.
اقتربت منه فتاة في مقتبل العشرينات، بعينين يملؤهما الفضول والتعجّب، وسألته: "يا عمّ، لماذا لا يعيش شباب العشرينيات مثل حياتك؟ لماذا هم دائمًا مرهقون ومثقلون بالهموم؟"
لم يبتسم باستخفاف، ولم يسخر كما يفعل بعض المتعجرفين، بل نظر إليها بعينٍ رحيمة، كأنما عاد بذاكرته إلى الوراء، وتذكّر حين كان في مثل سنّها، ثم قال بحكمة نابعة من قلب يعرف الألم: "لأنهم لا يستطيعون، لا لأنهم يجهلون كيف."
تلك العبارة كانت كافية لتختصر الكثير. الشباب اليوم لا تنقصهم الرغبة في العيش، ولا الوعي بأهمية الاعتناء بالذات، ولا حتى الإرادة التي تصنع المستحيل، ولكنّهم محاصرون من كلّ جانب، مثقلون بمطالب لا تنتهي، تائهون في واقع يسرق منهم الوقت والصحة والأحلام. إنهم يعرفون تمامًا كيف تكون الحياة المتزنة، لكنهم لا يجدون سبيلاً إليها.
لقد تحدّث ذلك الرجل عن تجربته بصدقٍ نادر. لم يزعم أنه وصل إلى ما هو عليه بسهولة، بل أكّد أنه عاش نفس المعاناة، واجتاز ذات الدروب الموحشة، وربما كانت الحياة أرحم في زمنه ممّا هي عليه الآن. كانت وتيرة الأيام أبطأ، والضغوط أهون، أما اليوم فقد اجتمعت قسوة المرحلة العمرية مع صعوبة الظروف الاقتصادية والاجتماعية.
كان بإمكانه أن ينتهز الفرصة ليمتدح نفسه، وأن يرفع من شأن تجاربه ليبدو قدوة مثالية، لكنه اختار أن يكون صوتًا صادقًا لمن لا صوت لهم، أن يتحدث باسم آلاف الشباب الذين يكافحون بصمت، ويكتمون شكواهم كي لا يُتّهموا بالضعف.
لكن، لماذا تُلقى اللائمة دومًا على الشباب؟ لماذا يُقال لهم في كل مرة يشتكون فيها: "المشكلة فيكم، لا في الدنيا"؟ كأنما الحياة وردية، والعمل متاح براتب كافٍ، والفرص متكافئة للجميع، والبيئة الاجتماعية داعمة ومحفّزة. من يُطلقون هذه العبارات يعيشون في أبراج من الأوهام، يعتاشون على تضليل غيرهم، ويُشيّدون لأنفسهم منابر البودكاست يبيعون من خلالها الأمل الكاذب والنجاح الوهمي.
أولئك الذين يروّجون لفكرة أن النجاح رهن قرار تتخذه، يتغافلون عن أن الظروف المحيطة كثيرًا ما تقف عائقًا أمام الإنسان مهما كانت إرادته قوية. إنهم يُحمّلون الشاب وحده مسؤولية إخفاقاته، متجاهلين تمامًا ضيق ذات اليد، وضبابية المستقبل، وغياب شبكات الأمان والدعم النفسي. إنهم يتناسون أن طريق النجاح لا يتشابه في طوله أو صعوبته بين الناس، وأن المجهود وحده لا يكفي دون فرصة حقيقية.
أدرك تمامًا أن الحياة ابتلاء، وأن المؤمن يُمتحن في صبره وسعيه، وأن الجزاء عند الله عظيم. لكن ما نطلبه هو شيء من الإنصاف، شيء من الرحمة، شيء من التقدير الحقيقي للمعاناة التي تُكابد في الخفاء. لا نحتاج إلى مزيد من المواعظ الجوفاء، بل إلى من يعترف أن الواقع صعب، وأن الإنجاز في زمننا هذا لا يُقاس بمقاييس الزمن الماضي.
والمؤلم في الأمر أن كثيرًا من الفتيات لا يدركن حجم المسؤوليات التي تثقل كاهل الرجل. يعتقدن أن كل من يمرّ أمامهن يجب أن يكون في أبهى هيئة، وفي قمة الرفاهية النفسية والمادية، فإن لم يكن كذلك، أطلقن عليه أحكامًا جائرة دون أدنى وعي بخلفياته أو ظروفه. لا يعرفن ما معنى أن يبدأ رجل حياته من الصفر، أن يُلقي بنفسه في معترك الحياة دون سند، دون ظهر، دون أحد يتفقده إن سقط، أو يربّت على قلبه إن ضاق.
المرأة إذا حزنت وجدت من يستمع إليها، من يُخفف عنها، من يمنحها كتفًا وملاذًا. أما الرجل، فعليه أن يكون الجبل، حتى وإن تصدّع داخليًا. لا يُسمح له أن يُظهر تعبه، بل يُتوقع منه أن يواصل السير، وأن يُخفي جروحه، وأن يتظاهر بالقوة حتى حين تنهار نفسه.
ثم تأتي على كاهله التزامات كثيرة لا يستطيع التنصل منها، أبرزها أداء الخدمة العسكرية، التي تقطع عليه سنوات عمره وتضعه في انتظار مؤلم لمستقبل مجهول. يخرج بعدها إلى سوق العمل فيجد أن معظم الأبواب موصدة، وأن الفرص النزيهة شحيحة، وأن المنافسة شرسة، وأن المطالب لا ترحم.
ووسط هذا كله، يُطلب منه أن يوازن بين عمله، وحياته الخاصة، ونفسه، وعلاقاته، وطموحه، ومستقبله! كيف له أن يفعل ذلك؟ وأي طاقة بقيت فيه ليرتب كل تلك الفوضى؟
إن كان الاهتمام بالنفس لا يأتي إلا بعد بلوغ الخمسينات، بعد أن تنقضي أجمل سنوات العمر في اللهاث خلف الاستقرار، فمتى نعيش؟ متى نذوق طعم الراحة؟ متى تكون لنا حياة لا نُجبر على تأجيلها دائمًا؟ ألا يحق لنا أن نحلم، ونعيش، ونرتاح، في الوقت الذي لا تزال فيه قلوبنا حيّة وأرواحنا متقدة؟
كلما رأيت أحدهم يبدأ حياته في الأربعينات، شعرت بالحزن، لا عليه، بل علينا نحن الذين نحيا مؤجلين، ونتنفس تحت الضغط، ونُربّى على جلد الذات وتحقير النفس. لا بد أن يأتي اليوم الذي نتوقف فيه عن لوم أنفسنا على كل ما لم يتحقق، ونعترف أن الطريق كان صعبًا، وأن الخطأ ليس دومًا فينا.
صحيح أن هناك من استطاع تجاوز هذه العراقيل، وحقق نجاحًا مبهرًا، لكنهم قلّة، ولا يجوز أن نأخذ الاستثناء قاعدة. إننا بحاجة إلى خطاب أكثر صدقًا، إلى نماذج واقعية، إلى اعتراف حقيقي بأن الحياة معقّدة، ولا تسير دومًا وفق ما نشتهي.
لكن رغم كل شيء، ورغم هذا الليل الطويل، لا يزال الأمل يسكن القلوب. لا تزال في داخلنا جذوة تقاوم الانطفاء، ويدٌ مرفوعة إلى السماء تُناجي الله أن يكتب لنا فرجًا، وأن يرزقنا خيرًا، وأن يمنحنا حياة تليق بقلوبنا الصابرة.
يا من تقرأ هذه الكلمات، إن كنت تشعر أنك وحدك في هذا الطريق، فاعلم أن كثيرين مثلك يسيرون بصمت. وإن خذلك العالم، فثق أن الله معك، يرى كل دمعك، ويسمع كل وجعك، ولن يتركك وحيدًا. فامضِ، وإن كنت منهكًا، وواصل، وإن كنت ثقيل الخطى، فإن الله لا يُضيع أجر الصابرين.