ذات يوم، وبينما كنتُ على مقاعد الدراسة الجامعية، كانت الأحلام تتسع باتساع السماء، والطموح يسبق الأيام في خطواته، والرغبة في الاستقلال المالي تدفعني لخوض تجارب جديدة لا تخلو من المخاطرة. في تلك المرحلة، تفتحت عينيَّ على فكرة قد تبدو للبعض بسيطة، لكنها بالنسبة لطالب جامعي كانت مغامرة كبرى؛ وهي أن أبدأ مشروعي الخاص برأس مال متواضع لا يتجاوز سبعمائة جنيه مصري. نعم، فقط سبعمائة جنيه، لكنها كانت كافية تمامًا كي أطرق باب عالم البيع المباشر، حيث تدير الكثير من الشركات أنظمة تسويق تعتمد على البيع للأفراد وجهاً لوجه.
البدايات في هذا المجال لم تكن يسيرة، لكنها كانت مشحونة بلذة المحاولة الأولى. المنتجات التي اخترت تسويقها كانت متنوعة، تهم الأسرة المصرية وتشمل مستلزمات العناية الشخصية، ومنتجات المطبخ، والعطور، والمنظفات، وغيرها من السلع التي يحتاجها أي منزل. كنت أتعامل مع شركة لديها مئات المنتجات، وكلها متاحة للعرض والبيع أمام أي شخص لديه رغبة في التجربة والمثابرة.
بدأت فعليًا أعرض المنتجات على من حولي: أصدقاء، جيران، وأقارب. أستقبل طلباتهم، وأذهب لجلب المنتجات من أحد فروع الشركة، ثم أوصلها بنفسي لهم. كان هذا يتطلب مني السفر داخل المدينة أحيانًا، وتحمل أعباء النقل والمواصلات، ولكن في المقابل، كانت الأرباح معقولة مقارنة بالمجهود المبذول. لم تكن تلك الأموال الكبيرة التي يحلم بها الشباب، لكنها كانت كافية لتمنحني شعور الإنجاز والثقة بالنفس. فقد كنت أبني نفسي من الصفر.
مع الوقت، اكتشفت ميزة جديدة سهلت الأمور عليَّ كثيرًا؛ أصبح بإمكاني طلب المنتجات أونلاين لتصل حتى باب المنزل. هنا بدأت عجلة الأرباح تدور بشكل أسرع، وازداد دخلي الشهري بشكل ملحوظ. شعرت أن الأمور تسير على الطريق الصحيح، لكن الرياح لم تجرِ بما اشتهيت.
في مرحلة لاحقة، بدأت أسعار المنتجات في الارتفاع بشكل شبه شهري. ومع كل ارتفاع، كان العملاء ينظرون إليّ وكأنني المسؤول عن تلك الزيادات. الطلبات بدأت في التراجع تدريجيًا، حتى أن بعض الزبائن صاروا يتهمونني ضمنيًا بأنني أرفع الأسعار لمصلحتي. تحولت من الشاب الذي يلبي احتياجاتهم إلى المتهم الأول في نظرهم، رغم أني لا أملك في الأمر شيئًا. حتى وصلت إلى مرحلة توقف فيها الطلب تقريبًا، فلم يعد أحد يسأل عن المنتجات من الأساس.
في محاولة للتماسك أمام هذه العاصفة، لجأت إلى بيع المنتجات بسعر الجملة، مقتنعًا بأرباح أقل بكثير، وأحيانًا مكتفيًا بالهدايا الرمزية التي تمنحها الشركة مقابل تحقيق أهداف معينة في المبيعات. حتى هذه الحيلة لم تَفِ بالغرض على المدى الطويل. فما عاد العملاء مهتمين، ولا العروض والهدايا كانت تجذب أحدًا في ظل استمرار الأسعار في الارتفاع.
وسط هذه المتاعب، اكتشفت مفارقة لطالما أدهشتني: كان الداعمون الحقيقيون لي من الغرباء، لا من الأقارب. رغم أنني كنت أبيع للأقارب بسعر أقل من السوق وأحيانًا أسمح لهم بتأجيل السداد لأشهر، كانوا يأخذون مني كميات قليلة رفعًا للحرج ثم يشترون معظم احتياجاتهم من مصادر أخرى. كنت أظن أن الأهل هم خط الدفاع الأول لأي مشروع صغير، لكنني اكتشفت أن المعادلة ليست بهذه البساطة.
هذا السلوك دفعني للتساؤل عن منطق العلاقات الإنسانية في بيئة الأعمال: لماذا يجد الغريب أحيانًا ما لا يجده القريب؟ ولماذا يكون الدعم المعنوي والمادي بعيدًا عن أولئك الذين يفترض أنهم أقرب الناس؟ ربما يكون الأمر مرتبطًا بمخاوف من الخسارة، أو تجارب سابقة سيئة، أو حتى تصورات اجتماعية لا علاقة لها بالمنطق. لكن النتيجة في النهاية واحدة: أصحاب المشروعات الصغيرة غالبًا ما يجدون الدعم من الدائرة الأبعد وليس الأقرب.
وخلال هذه الرحلة، واجهتُ منافسة شرسة من أشخاص لهم باع طويل في مجال البيع المباشر. كانوا يشترون كميات ضخمة ويبيعونها بأسعار أقل من سعر الجملة بكثير، معتمدين على نظام المكافآت والهدايا الكبيرة التي تقدمها الشركة مقابل تحقيق مستويات مرتفعة من المبيعات. تلك الاستراتيجية المعروفة بين الباعة بـ"حرق الأسعار" جعلتني أشعر أن السوق في بعض الأحيان ليس عادلاً على الإطلاق. فهناك من يبيع ليخسر السعر، ويعوض ذلك لاحقًا من المكافآت والهدايا، بينما أنا وغيري ممن يعملون برؤوس أموال صغيرة، نقف عاجزين أمام هذه الممارسات التي تهدم السوق وتربك حسابات الجميع.
هذه المنافسة غير العادلة أرهقتني نفسيًا وماديًا. بدأت أشعر أنني أقاتل في معركة بلا سلاح. رأس مالي محدود، وسمعتي أمام العملاء تتآكل مع كل انخفاض جديد في الأسعار من المنافسين الكبار، وأحلامي في التوسع باتت بعيدة المنال. لم أجد نفسي فقط أتعلم عن التجارة، بل أتعلم عن الحياة، عن العلاقات الإنسانية، عن الهزائم الصغيرة والانتصارات العابرة، عن الثبات في وقت الأزمات.
المضحك المبكي أن كل الذين توقعت دعمهم في البداية كانوا أكثر الناس بعدًا عن الشراء مني. بعضهم كان يشتري بالكاد منتجات محدودة، فقط لرفع الحرج، ثم يتجه للتعامل مع باعة آخرين وكأنني عدوهم اللدود. حتى عندما قدمت لهم تسهيلات في الدفع، وسعرًا مقاربًا لسعر الجملة، لم يتغير شيء. وكنت أخسر قيمة المال مع مرور الوقت بسبب الارتفاع المستمر في الأسعار، فكل تأخير في تحصيل المستحقات كان يعني خسارة إضافية لي.
في المقابل، جاءني الدعم الحقيقي من أناس لم أكن أعرفهم من قبل. عملاء جدد، زملاء في الجامعة، وحتى أشخاص تعرّفت عليهم عبر الإنترنت. كانوا أكثر التزامًا وأقل مطالبةً بالتسهيلات، والأهم أنهم كانوا يُقدرون جهدي ووقتي. هذا الشعور بقيمة الذات الذي منحوني إياه، كان حافزي الأكبر للاستمرار في الأوقات الصعبة.
ومن المواقف التي لا تُنسى، رؤيتي لبعض الباعة الكبار يشترون كميات مهولة من المنتجات ليحصلوا على مكافآت استثنائية من الشركة، ثم يبيعون المنتجات بأي سعر، حتى لو تسبب ذلك في خسارة صغار البائعين في السوق. كنت أراقب المشهد وأسأل نفسي: هل هناك عدالة في عالم التجارة؟ هل البقاء فعلًا للأقوى أم للأكثر حيلة ومكراً؟ هل الأخلاقيات موجودة في السوق، أم أن قوانين الغاب تحكم وحدها؟
لا أنكر أنني أُصبت بالإحباط في كثير من الأوقات، فقد شعرت أن العالم يتآمر على من يحاول أن يبدأ من الصفر، بينما النجاح يبدو متاحًا فقط لمن يملك رأس مال كبير أو شبكة علاقات واسعة. كنت أرى كيف أن السوق يُدمر من الداخل بسبب "حرق الأسعار"، وكيف يتحول البائع الصغير من طموح إلى مستسلم أمام واقع قاسٍ لا يرحم.
ورغم كل هذا، لا أعتبر التجربة فشلًا. بل كانت درسًا في الحياة قبل أن تكون درسًا في التجارة. تعلمتُ كيف أتعامل مع الناس، كيف أقرأ ملامح السوق، كيف أضع خطة بديلة دائمًا، وكيف أحافظ على ثباتي وهدوئي في مواجهة العواصف. والأهم من ذلك كله، تعلمت أن النجاح ليس مرهونًا بالمال وحده، بل بالإرادة، والقدرة على التكيف، والإيمان بأن لكل مجتهد نصيب، ولو تأخر قليلاً.
وفي نهاية هذا البوح الطويل، أجد نفسي أمام سؤال لا يفارقني حتى الآن:
لماذا يفضل كثير من الناس دعم الغريب بينما يترددون في دعم القريب، حتى ولو كان ذلك القريب هو شخص يسعى لكسب رزقه بشرف؟ وهل سبق لك أن واجهت موقفًا شبيهًا جعلك تعيد التفكير في طبيعة علاقاتك ودوافع من حولك؟
ربما تحمل إجاباتكم بعض الضوء لهذا التساؤل المزمن، أو على الأقل تمنحنا لحظة صراحة مع النفس في زمن يزداد فيه كل شيء تعقيدًا.