سبحانك ربنا، إليك وحدكَ أكتب، ومن نورك أستمد حروفي، ومن فيضك أُضيء دروب الكلام. كلّما هممتُ أن أكتبَ إليك وجدتُني عاجزًا أمام فيضِ كرمك، وكلما حاولتُ أن أعبّر عمّا في صدري ضاق بيَ البيان وعجز عن حمل مشاعري. ألستَ أنت الذي علّمت القلوبَ كيفَ تحبُّ وكيف تحزن؟ ألستَ أنت الذي أودعتَ في صدورنا نبضاتٍ تُشعل أفراحنا وأشجانًا تُحرك دموعنا؟
يا ربّي، كم تأمّلتُ تلك اللحظات التي يمتلئ فيها القلب بالحب، فوجدتُه يسقى من نهر رحمتك. ولو جفّ هذا النهر لما بقيَ فينا روحٌ تنبض ولا حياةٌ تُرجى. إنك جعلتَ الحبَّ سرّ وجودنا، ماءً إذا شحَّ عن قلوبنا ماتت ظمآنةً. أليس منك هذا السر الذي لا نعرفه إلا حين نحسّه في أعماقنا، ولا نراه إلا في لمعانِ عيون من نُحب؟
وكم من مرةٍ وجدت دموعي تنسابُ فوق خدّي، دون أن أفهم لها سببًا سوى أن قلبي مثقلٌ بأشجانٍ لا يُدرك معناها غيرك. أنتَ وحدك الذي علّمت الدموعَ أن موطنها الجفن، وأن طريقها الشجو، وأن نهايتها غدرانٌ فوق خدودنا. لولاك لما عرفَت عيوننا معنى الدمع، ولما عرفنا نحن أن في الدموع راحةً، وأن في البكاء شفاءً للقلوب التي أرهقها الألم وأثقلتها الهموم.
كلما اشتدّت الحيرة بداخلي، بحثتُ عن العلم فلم أجده إلا في نواصي القلب، وأدركتُ أن العلم ليس كلماتٍ نرددها ولا سطورًا نحفظها، بل نورٌ أنتَ من أشعله في العقل ليدرك الحقيقة، وجعلتَ القلب مسكنه، ليطمئن به ويستكين. لولاك لظل العقل حائرًا في ظلمات جهله، ولأصبحت أرواحنا ضائعة لا تدري أي درب تسلك وأي حقيقة تتبع.
في لحظات ضعفي، أنظر إلى الأرض التي تحيا بقطرات الغيث التي تنزل من سمائك، فأجدها تزهر وردًا وريحانًا، وأنظر إلى نفسي فأرى فيها أرضًا ظامئةً تنتظر غيث رحمتك، لتحيا من جديد. فكم مرةٍ أحييتني من رماد اليأس، وكم مرةٍ سكبتَ على قلبي غيثًا من الرجاء، فأزهرتُ فرحًا بعد أن كنتُ أرضًا ميتة.
حتى البحر، ذلك العميق المجهول، أنت من علّمه كيف يهدأ وكيف يسجو، فيحملنا فوق موجه آمنين مطمئنين. وهل كان لي أن أبحرَ في دروب الحياة إلا بقوةٍ منك؟ وهل كان لي أن أصمد في وجه الرياح إلا وأنت تردّ عني أهوالها، وتفتح لي بين أمواجها دروبًا آمنة؟
ربّي، حين أرفع رأسي إلى السماء وأرى ذلك القمر الزاهي، أدركُ أن نوره من انعكاس شمسٍ سخّرتها له، وأرى في ذلك حكمةً تخبرني أن نوري الذي يشعُّ داخلي إنما هو انعكاسٌ لنورك الذي لا يغيب. وحين أنظر إلى النجوم المتلألئة التي تسير في ظلمات الليل، أتساءل: من علّمها طريقها؟ ومن أعطاها دليلًا يُرشدها في مجراها ومسراها؟ فأدرك أن لا أحد سواك يملك جوابًا عن هذا السؤال.
كلما حاولتُ أن أتأمل في معاني الوجود، أعود لأجد أن العقل ميزانٌ وضعتَه في داخلي، لأزنَ به الأمور وأدرك حدودَ طاقتي. وما كان للعقل أن يحيط بكل شيء، فهو في النهاية مخلوقٌ من مخلوقاتك، وما أوتيَ من العلم إلا قليلًا، فإن عجزتُ عن فهم شيء، عاد إليَّ قلبي خاضعًا لك، ساجدًا بين يديك، معترفًا بأنك أنت وحدك الذي تملك كل شيء، وأن علمك وسع كل شيء، ولا يحيط به أحد من خلقك.
أسمعُ الطير وهو يشدو فوق الأغصان، فتتحرك في داخلي مشاعر لا أفهمها، لكنني أعلم يقينًا أنك أنت من علّمه كيف يغني وكيف يثير الأشجان، وكيف يلامس أرواحنا بنغماته، فيحرّك فينا وجدانًا كنا نظنّه قد مات أو اندثر. فكأنك تقول لي عبر تغريد الطير: ما زال في الحياة جمال، وما زال هناك من أسباب البهجة ما يجعل القلب يرقص ولو كان بين ضلوعه ألف جرحٍ وألف حزن.
يا من أكرمتني بأن أكتبَ إليك، يا من وضعتَ في يدي القلم وعلّمتني كيف أصيغ حروفي، إني لا أملكُ شيئًا مما بين يديّ. كل ما أملكه هو هِبةٌ منك، وكل حرفٍ يُكتبُ بمدادٍ من قلبي هو في الحقيقة شعاعٌ من فيض نورك، فهل لي أن أدّعي يومًا أنني مالكٌ لأي شيء دونك؟
أنتَ سبحانك، من علّم الشعرَ أن له أوزانًا وألحانًا تُطرب الأرواح، ومن علّمَ القلب أن له نبضاتٍ تهتز فرحًا وحزنًا، ومن علّم الحبَّ أن لا موطنَ له إلا في القلب، ومن علّم الدمع أن الجفون بيته، ومن علّم العقل أنه بلا نورك يبقى حيرانًا.
يا ربّي، لا أملكُ أمام عظمتك إلا أن أخرَّ ساجدًا بين يديك، وأقول من عمق قلبي: سبحانك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، ولا حياة لنا إلا بنورك ورحمتك. فإن عشتُ يومًا سعيدًا فهو بفضل منك، وإن غمرني الحزن يومًا فإني أتذكر أنه ابتلاءٌ منك يطهّرني ويقرّبني إليك.
كل ما في هذا الكون يشهد لك بالوحدانية، وكل ما في داخلي يشهد أنك أنت الذي خلقتني وأوجدتني وأكرمتني بنعمة الحياة. فيا ربّي، لا تتركني وحدي في ظلمات الحيرة، ولا تترك قلبي جافًا بلا ماء حبك ورحمتك. فأنا بدونك لا شيء، وبدون فيض كرمك لا حياة لي.
سبحانك ربنا، لا علم لنا إلا ما علمتنا، ولا أمل لنا إلا في رحمتك. إن قصرتُ فاغفر لي، وإن ضعفتُ فقوّني، وإن ضللتُ فردّني إليك ردًّا جميلًا، وإن خفتُ فآمن خوفي، وإن بكيتُ فاجعل دمعي طهرًا لي، وإن فرحتُ فزدني من فضلك.
سبحانك ربنا، إليك وحدك أكتب هذا البوح، ومن نورك أستنير، ومن رحمتك أرجو النجاة. أنت وحدك المالك لأمري، والقادر على تغيير حالي، فأنت تعلم ما في قلبي، وتعلم حاجتي دون أن أبوح، فاقبل مني هذه الكلمات، واغمرني بفيض رحمتك، فإنني إليك وحدك أشكو ضعفي وألجأ في شدتي.
سبحانك ربنا، ليس لي غيرك، وليس لي من دونك ملجأ، فخذ بيدي إليك، فأنا لا أملك من نفسي شيئًا.
سبحانك ربنا، لا علم ولا عمل لنا بدونك، سبحانك ذا العرش سبحانا.