أنا الآن أعيش حالة من التشتت لا أعرف لها اسمًا واضحًا، لكنني أشعر بها كلما فتحت حاسوبي لأبدأ يومًا جديدًا من العمل الحر. لا أدري كيف وصلت إلى هذه المرحلة، ولا متى تحديدًا انزلقت قدمي إلى هذا الفراغ الذي لا أرض تحتي فيه ولا سقف فوقي. فقط أعمل. فقط أكتب. فقط أحاول أن أثبت لنفسي أنني ما زلت أستحق هذه الحياة.
أعمل ككاتب محتوى حر. قد يبدو هذا لبعض الناس أمرًا رائعًا؛ فأنت تعمل من أي مكان، في أي وقت، دون مدير يراقبك أو يقيدك بقيود الوظائف التقليدية. لكن الحقيقة خلف الكواليس ليست بهذه البساطة، بل هي أكثر تعقيدًا، أكثر إنهاكًا، وأكثر وحدةً مما يمكن وصفه بالكلمات.
مشكلتي بدأت حين صار الكرسي عدوًّا لي، وصار المكتب خصمًا لراحتي. لم أكن أتخيل يومًا أن الوضعية الخاطئة قد تسرق مني متعة الجلوس والكتابة، وقد تزرع في ظهري طعنة، وفي رقبتي صرخة ألم لا تهدأ. حاولت التعديل، جربت وسائد، غيّرت المقعد، لكنّ الجسد بدأ يعلن رفضه. كلما جلست، اشتكى. وكلما حاولت التركيز، صرخ جسدي في وجهي قائلاً: "كفى!".
العمل لا يجلب دخلًا ثابتًا. هذا القلق لا يفارقني أبدًا. أملك مدونة، نعم، أكتب فيها وأشارك أفكاري وتجربتي، لكنّها لا تدر دخلًا حقيقيًا يمكنني الاعتماد عليه في حياتي. وكلما ظننت أنني وجدت المفتاح، اكتشفت أنه مجرد وهم. لا عمل منتظم، ولا أرباح حقيقية، ولا حتى شعور بالأمان.
أفتح منصات العمل الحر، أجهز ملفي الشخصي، أكتب عن نفسي، مهاراتي، وأعرض نماذج من أعمالي السابقة. لكنّي في كل مرة أجد نفسي ضائعًا بين من يسمونهم "العتاولة". محترفون بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تقييماتهم مرتفعة، وتعليقات العملاء عليهم تبعث على الرهبة. حين أقارن نفسي بهم، أشعر أنني طفلٌ ضلّ طريقه في ملعب الكبار.
تبدأ الأسئلة تنهمر في داخلي: من أنا بجانبهم؟ كيف سأُسعّر عملي وأنا بالكاد أجد من يطلب خدماتي؟ هل أطلب أجري العادل، أم أتنازل لأحصل على فرصة؟ لكن ماذا عن كرامتي؟ وماذا عن تعبي؟ ثمّ في لحظة صمت، أجد نفسي عاجزًا عن الإجابة، فأغلق المنصة وأعود لنقطة البداية.
أحاول أن أضع خطة. أن أرسم طريقًا. لكنّي أكتشف أنني أتحرك كمن يمشي في الظلام، يمدّ يده باحثًا عن شيء يتكئ عليه، لكنه لا يجد سوى الفراغ. أحيانًا أكتب فقط لأكتب. دون هدف. دون رغبة. دون شغف. وكأنني فقدت ما كان يجعل الكتابة بالنسبة لي طوق نجاة، فإذا بها الآن قيد يشدني إلى قاع الإحباط.
لا أخجل من القول إنني أشعر بالتيه. هناك ضباب يملأ رأسي، وأحلامي التي كانت يومًا ما وضوح الشمس، باتت اليوم مشوشة، باهتة، كأنّ أحدهم مرّر فوقها ممحاة، وتركني أتساءل: ماذا كنت أريد أصلًا؟ وإلى أين أنا ذاهب؟
كل من حولي يطلب مني أن أُنجز. أن أكون قويًا. أن أستمر. لكن أحدًا لا يسألني: "هل أنت بخير؟"… لا أحد يرى أني أنهار بصمت، أني أبتلع خيبتي كل مساء، وأتظاهر بالصمود كل صباح. لا أحد يفهم أن أصعب المعارك هي تلك التي تدور داخلك، بصمت، دون شهود، ودون تصفيق.
أريد فقط أن أجد استقرارًا. أن أستيقظ يومًا وأنا أعلم أن هناك دخلًا في الطريق، أن هناك عميلًا ينتظر كلماتي، أن هناك مشروعًا يُنقذني من هذا القلق. أريد أن أكتب لا لأني مضطر، بل لأني مشتاق للحروف. أريد أن أعود لذلك الكاتب الذي كنت عليه يومًا، الذي يرى في كل فكرة مغامرة، وفي كل سطر رسالة.
كلما هممت أن أبدأ من جديد، يُخيفني كل ما حولي. يُخيفني الوقت الذي ضاع، والمجهود الذي لم يؤتِ ثماره. أُرهق نفسي في التعديل، وأُعيد ترتيب ملفاتي مرارًا وتكرارًا، لكنّ ما بداخلي يهمس لي دائمًا: "لن يراك أحد." وكم هو موجع أن تشعر أنك غير مرئي، أنك تحاول بكل ما فيك، ثم لا أحد يلاحظ.
مررت بليالٍ كثيرة وأنا ألوم نفسي: هل أنا السبب؟ هل لأني لا أسوّق جيدًا؟ هل لأنني لا أملك الجرأة الكافية لأطلب حقي؟ هل لأنني لست بارعًا كما أظن؟ وتبدأ دوامة جلد الذات، تبتلعني، وتُنهكني أكثر من أي عمل قمت به.
وفي لحظات أمل عابرة، أُمسك هاتفي، وأفتح البريد، لعل هناك رسالة تغير كل شيء. لكنّ البريد صامت، والانتظار طويل، وأنا عالق بين حلم لم يتحقق، وخوف من أن يكون هذا أقصى ما سأصل إليه.
أحيانًا أفكر أن أترك كل شيء، أن أبدأ من الصفر في مجال آخر، لكن شيئًا بداخلي يتمسك بالحلم، يقول لي: لا تفعل. لا تخن قلمك. لا تهجر الورق. ربما هي أزمة وستمر. ربما الصبر هو ما ينقصك، لا المهارة، ولا الحظ.
أعيش هذا الصراع يوميًا. بين رغبة في الاستمرار، ورغبة في الهروب. بين طموحي في أن أكون شيئًا، وخوفي من ألا أكون شيئًا على الإطلاق. ومع كل هذا، أكتب. ما زلت أكتب. لأنني لا أملك طريقًا غير هذا الطريق، مهما كان وعرًا ومؤلمًا.
ووسط كل هذا الزخم، هناك لحظة صدق تشرق داخلي، تقول لي إن كل من سار على الدرب تعب، وإن هذا التعب ليس فشلًا بل دليل على أنني أحاول. فالفشل الحقيقي هو ألا أحاول، أن أستسلم، أن أتوقف عن الحلم.
أدرك الآن أنني لست وحدي، وأن كثيرين مثلي يمرون بما أمرّ به، يعانون نفس القلق، ونفس الشك، ونفس الوحدة. وأدرك أيضًا أن الكتابة قد لا تكون طريق الثراء، لكنها طريقتي الوحيدة لفهم نفسي، للبوح، للشفاء.
ولذلك سأكمل. سأكتب حتى أجد طريقي. سأحاول رغم الخوف. وسأذكّر نفسي دائمًا أنني ما زلت أتنفس، وما دام فيّ نفس، ففيّ أمل.