أكتب هذا الآن، وأنا لا أبحث عن تفسيرٍ لما يحدث بداخلي، ولا أنتظر من الكلمات أن تداوي، ولا من أحدٍ أن يفهمني. فقط أكتب، لأُفرغ شيئًا ما، أي شيء، مما أثقل صدري ولم يعد له مخرج سوى الحروف.
لسنا كئيبين، لا والله لسنا كذلك. نحن فقط نُقاوم. نُقاوم العالم بأكمله ونحن نحمل على أكتافنا ما لا يُحتمل. نبتسم أحيانًا، نعم، ونتحدث، ونتظاهر بالقوة، لكن داخلنا مكسور، هش، يتداعى بصمت. تخيّل أن تكون متعبًا حدّ أنك لا تريد النطق بكلمة واحدة، لا رغبة في الحديث، لا رغبة في شيء أصلًا، ثم تأتيك ظروف تُجبرك على التحمل. ليست خيارات، بل أوامر، وكأن الحياة تقول لك: "اصمد، غصبًا عنك"، فتفعل. تفعل وأنت تُدرك أنك تنكسر أكثر، لكن لا حيلة لك.
كل شيء يؤلم في هذه المرحلة. حتى تلك التفاصيل التي كنت تتجاهلها سابقًا، أصبحت الآن تسحبك نحو الأسفل. كلمة عابرة، نظرة، صوت، موقف بسيط، يُصبح كفيلًا بأن يُربكك ويهزّك من الداخل. لا لأنك ضعيف، بل لأنك استُهلكت تمامًا. كل طاقتك صُرفت في المقاومة، ولم يتبقَ منك إلا فتات، وها هو الآخر يتناثر.
ثم تعود إلى ذاتك، إلى فراغك، إلى اللاشيء. تصبح لا تدري لماذا تفعل ما تفعل، ولا لأجل من. لا تكترث لأي شيء، لا رغبة في البكاء، ولا حتى في الغضب. تسقط من الحياة دون أن تُحدث صوتًا، مثل ورقة ذبلت وسقطت دون أن يلحظها أحد. ترخي يدك عن كل ما كنت تُمسك به بشدة، تُسلّم، لا لأنه خيار، بل لأنك لم تعد تملك القوة للرفض. وهذا الشعور الغريب، هذا الخمول الداخلي، هذا الانطفاء، لا أدري له اسمًا، ولا أظن أن أحدًا قد وصفه بدقة من قبل.
ربما يُسمونه فراغًا، لكنني أشعر أنه أعمق. فراغ يُخدر القلب، يُعطله. لا ألم ظاهر، لكنك تموت في داخلك بالبطيء. لا أحد يسمع هذا الموت، لا أحد يراه، لأنك ما زلت تمشي وتتنفس، وهذا كافٍ بنظرهم لتكون بخير.
وتكاد أوجاعي تصرخ، والله لو كان لها صوت لارتجّت لها الجدران. لكنها تنحبس، تتكدّس، تتراكم داخلي، تنمو كشيء خفيّ يأكلني من الداخل. لا كلمات تُناسب هذا الألم، لا عبارات تكفي. قُتِلت اللغة أمام ما أشعر به، ولم يبقَ سوى صمتٍ ثقيل. وهذا الصمت يقتلني.
أنا لا أقول إني حزين. ولا حتى كئيب. أنا أسوأ من ذلك. أنا في مكانٍ لا تُجدي فيه هذه المسميات. أصابني برود عجيب، لا مبالاة مرعبة، جمود لم أعهده في نفسي. أفكاري تسبب لي الدموع، لكنها لا تنزل. فقط تُحرق عيني من الداخل. كأن شيئًا يحاول الخروج، أن يصرخ، لكني لا أملك القدرة. أريد أن أصرخ، أن أُحدث ضجيجًا يُسمع، أن أُمزق حنجرتي حتى ترتجّ السماء، لكني لا أفعل. لا أستطيع.
ورأسي… رأسي وكأنه ساحة حرب. صداع يطرق في كل جهة، ولا راحة. أنا لا أعيش، بل أُقتل يوميًا، بهدوء، دون أن يعلم أحد ماذا بي. هذا القتل ليس بسكين، وليس برصاصة، إنه أعمق، أشد، أبطأ. كأنك تغرق في بئرٍ لا قاع له، وكلما طلبت النجدة، ابتسموا لك وقالوا: "أنت قوي، ستنجو."
وليت، ليت الآهات التي نطلقها تُزيل شيئًا من وجعنا. ليت كل تنهيدة تُسقط حزنًا، ليت كل دمعة تُفرغ بعضًا من هذا الثقل، ليت فقط لو كان للحزن مخرج واضح. لكنه يظل عالقًا، عالقًا في حناجرنا، لا هو يُقال فيُفهم، ولا هو يُنسى فيُدفن.
الدموع لم تعد باردة كما كنا نظن، صارت تؤلم، تجرح، تُلهب العين والقلب معًا. لم تعد تخفف شيئًا، صارت تُذكّر فقط بمدى العجز، ومدى القهر. والقلق؟ هذا الغريب الذي يسكن صدري ولا يرحل. يُرافقني كظلي، يتسلل إلى نومي، يُفسد راحتي، يجعل من كل لحظة استراحة، لحظة قلق جديدة.
أنا لا أبحث عن تفسير. ولا أبحث عن من يُخبرني أن كل شيء سيكون بخير. كل ما أريده هو أن أهدأ، أن أضع هذا الحمل عن صدري، أن أتنفّس بلا خوف، أن أعيش لحظة واحدة دون مقاومة. فقط لحظة واحدة أشعر فيها أني بخير، أني لا أحتاج إلى التظاهر بالقوة.
هل تعرف كيف يُنهكك التظاهر؟ أن تُجامل الناس، أن تُخفي دموعك، أن تُغير نبرة صوتك، أن تقول "أنا تمام" وأنت تنزف من الداخل؟ هذا وحده كفيلٌ بأن يسلب منك طاقتك بالكامل. تتمنى لو أن هناك من يقول لك: "اترك كل شيء وتعال، فقط تعال"، دون أن يسألك، دون أن يُجبرك على التفسير.
لكن لا أحد يفعل.
لذلك نحن نكتب. لا لأننا نريد أن يُقرأ ما نكتبه، بل لأننا نُخاطب أنفسنا، نخاطب وجعنا، لعلّنا نُداويه ولو بكلمة. نُفرغ هذا الصمت المدفون، نُخرجه للحياة، ولو للحظة، ثم نعود لنتألم بصمت من جديد.
أعرف أن هناك من سيقرأ هذا ويشعر أنه هو نفسه من كتبه. وهذا طبيعي، لأن الألم يتشابه. لا يتطابق، لكنّه يتقاطع. وكلنا مررنا بتلك اللحظة التي نقول فيها "لا أدري ما بي"، وكلنا ذقنا مرارة الشعور الذي لا يُقال.
أحيانًا نمشي في الشوارع والناس تُحيينا وتبتسم لنا، ونحن في الداخل نُصارع شيئًا لا يُرى. قد نضحك في وجوههم، وفي داخلنا نُحارب وحشًا يحاول افتراسنا. وقد نكون برفقتهم، وقلوبنا تذوب وحدها.
ثم ننام… لا هربًا من الحياة، بل بحثًا عن راحة لا نجدها. نتمنى أن نغيب، ليس للأبد، بل لفترة. فقط لنُعيد ترتيب أنفسنا، لنجمع ما تبقّى منّا. ننام لعلّ النوم يرمم شيئًا، لكن حتى النوم لم يعد مأوى، صار ساحة أُخرى للقلق والذكريات والتفكير المُفرط.
نحن نتألم، نعم، لكننا لا نحزن بالطريقة المعتادة. نحن فقط نطفئ ببطء، نُستهلك يومًا بعد يوم، ولا نجد من يقول: "كفى، ارتح".
نحتاج فقط إلى حضن، إلى نظرة صادقة، إلى كلمة غير متوقعة، إلى أحد يُمسك بأيدينا دون أن يطلب تفسيرًا. نحتاج إلى راحة لا تشرح نفسها، إلى صمت يُشبهنا، إلى دفءٍ لا يُشترى، إلى صدق.
نحتاج فقط أن يُسمح لنا بأن لا نكون بخير لبعض الوقت… دون حكم، دون ضغط، دون عبارات مثل: "كن قويًا" أو "كل الناس تمر بهذا".
أحيانًا كل ما نحتاجه أن يقول لنا أحدهم: "أنا معك… ولو ما فهمتش، أنا حاسس بيك."
أكتفي بهذا القدر من البوح، لكنّي أعلم أن ما في داخلي أكثر من ذلك. كثير، متشابك، مؤلم. وربما أعود لأكتب لاحقًا، وربما لا. لكن على الأقل، هذا النص هو أنا. هو صوتي حين صمتُ، هو بكائي حين لم أبكِ، هو صراخي المكبوت.
ولعلّك الآن تفهمني.