العمل الحر، ذاك الحلم اللامع الذي يلوّح في الأفق ويبدو للوهلة الأولى كخلاص من قيود الوظائف التقليدية، وكمساحة مفتوحة من الحرية والربح والراحة النفسية. الكل يتحدث عنه، الكل يشجّع عليه، الكل يشير إلى تلك القفزات المالية التي حققها البعض، وذاك النمط الحياتي الذي يتيح لك أن تعمل من أي مكان في العالم، متى أردت، وكيفما أحببت.
سمعت عنه كثيرًا. عن أولئك الذين استقالوا من وظائفهم، وفتحوا حسابات على منصات العمل الحر، ثم غيّروا مجرى حياتهم بالكامل. سمعت عن الأرباح الخيالية، عن قصص النجاح، عن أول مشروع بمئة دولار، ثم الذي يليه بألف، ثم العقود الطويلة التي تجعلهم يكتبون على مواقع التواصل الاجتماعي بكل فخر أنهم "مستقلون منذ خمس سنوات ولم يندموا يومًا".
ولكن ما لم أسمعه بما يكفي هو ما يحدث في الظلال. ما يحدث في الصمت. ما يحدث بعد أن يسجل المرء في تلك المنصات، ويملأ ملفه الشخصي بأقصى درجات الحماسة، ويبدأ في تقديم العروض، منتظرًا… فقط منتظرًا.
مررت بتلك اللحظة.
سجّلتُ. كنت متحمسًا. شعرت أنني على مشارف ولادة جديدة لحياتي المهنية. أنني بدأت بالفعل أتحرر من قيود الروتين والانتظار الطويل في مكاتب بلا معنى. جهزت ملفي الشخصي، رفعت عينات من عملي، كتبت بوضوح من أنا، وماذا أقدم، ولماذا أنا جدير بثقة أي عميل.
ثم بدأت. بحثت عن المشاريع المناسبة، وكتبت عروضًا مهذبة ومهنية وواضحة. شعرت بالفخر وأنا أضغط على زر الإرسال. جلست بعدها أمام الشاشة كمن ينتظر مكالمة مصيرية.
ولكن لا شيء.
لا رد.
ولا حتى إشعار بالاطلاع على العرض.
مرّت الأيام، ثم الأسابيع، والعروض تتراكم، ولا أحد يكلّف نفسه عناء الرد، حتى بالرفض.
هل أنا وحدي؟ هل أنا سيئ إلى هذا الحد؟ هل أخطأت الطريق؟
**
في كل مرة كنت أراجع فيها ملفي الشخصي، أشعر وكأنني أُحاكم ذاتي. هل هذه الصورة مناسبة؟ هل هذا النص مقنع؟ هل عينات عملي جيدة بما يكفي؟ لماذا لم أُختر؟ لماذا لم يُرد عليّ أحد؟
كنت أعيد قراءة العروض التي أرسلتها، وكأنني أفتّش عن عيب قاتل أغفلته، عن سطر واحد كان بإمكانه أن يغيّر كل شيء.
لكن لا، الأمر ليس بهذه البساطة. وليس أيضًا بذلك التعقيد.
**
العمل الحر ليس كما يُروّج له فقط. ليس هو مجرد تسجيل وكتابة عرض وانتظار العائد. هو مساحة واسعة من التنافس الحاد، وسوق مزدحم بالخبرات والنجاحات والأسماء التي سبقتك بسنوات، والملفات التي تحوي مئات التقييمات.
كنت أظن أنني بمجرد أن أقول: "أنا هنا"، سيهرول إليّ العملاء من كل حدب وصوب. لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا.
الواقع يقول: "أثبت وجودك، ثم انتظر قليلًا، ثم اثبت أكثر، ثم اصبر، ثم استمر، ثم لا تملّ".
الواقع لا يعطيك الفرصة لمجرد أنك ترغب بها.
**
حين تكون بلا تقييمات، بلا عملاء سابقين، بلا شهادات موثقة في الملف، فإنك تبدو في أعين العملاء وكأنك "مجرد حساب آخر".
ليس لأنك سيئ، ولكن لأن هناك مَن جاء قبلك وبنى جدارًا من الثقة والخبرة.
هنا، تبدأ أول مواجهة حقيقية مع الذات.
مَن أنت بلا إثباتات؟ كيف ستقنع أحدهم بأن يمنحك أول فرصة؟
**
العمل الحر يعلمك الصبر، لكنه لا يخبرك أن البداية قد تكون مؤلمة لهذا الحد.
تعلمت أن أنجح أول خطوة هي: أن أصبر، وأستمر، وأبحث عن أصغر المشاريع، تلك التي لا يتقدم لها الكثيرون. مشاريع لا يراها الآخرون جديرة، لكنها قد تكون أول بصمة لك في الطريق الطويل.
وتعلمت أيضًا أن الملف الشخصي ليس مجرد سيرة ذاتية، بل هو حكاية يجب أن تُروى بإقناع، وأن تبدو وكأنك بالفعل محترف، حتى لو لم تبدأ بعد.
**
العمل الحر يعلمك أن السوق لا يرحم، لكنه في الوقت نفسه لا يغلق بابه.
الفرص موجودة، لكنها لا تُمنح، بل تُنتزع.
العملاء لا يبحثون عن المجهولين، بل عن الموثوقين.
والموثوق لا يُولد، بل يُصنع.
**
في لحظات كثيرة، شعرت بالإحباط. كان يمكنني بسهولة أن أقول: "هذا ليس لي"، وأن أستسلم، وأن أغلق الحساب، وأن أعود أبحث عن وظيفة تقليدية، بأجر قليل، ولكن بضمان شهري.
لكن جزءًا ما في داخلي كان يرفض الاستسلام.
صوت خافت كان يقول: "ابقَ هنا، حتى لو لم يُردّ عليك أحد".
فعلت ذلك. بقيت. طوّرت ملفي. قرأت تجارب الآخرين. شاهدت عشرات الفيديوهات التعليمية. كتبت أكثر. راجعت نفسي أكثر.
ثم حدثت المعجزة الصغيرة.
أول عميل. أول مشروع. أول دولار.
وكأنني وُلدت من جديد.
**
العمل الحر ليس طريقًا سهلًا، وليس بابًا سحريًا. هو ككل شيء في الحياة: يتطلب جهدًا وصبرًا ومثابرة.
والبدايات دائمًا صعبة. بل أحيانًا قاسية. ولكن لا أحد يصل دون أن يمر بتلك اللحظات التي شعرت فيها أنا بالعجز، بالخذلان، بالانتظار الموجع.
تلك اللحظات هي التي تبنيك.
هي التي تصقلك.
هي التي تريك هل أنت جاد فعلًا، أم أنك كنت تبحث عن طريق سهل فقط؟
**
إذا كنت تقرأ هذا الآن، وتمر بنفس تجربتي، وفتحت حسابًا في إحدى منصات العمل الحر، ولم يطلبك أحد، ولم يرد عليك أحد، وتشعر بأنك وحدك في مواجهة جدار صامت…
فأقول لك: أنت لست وحدك.
وأنت لست عديم الكفاءة.
وأنت لست فاشلًا.
أنت فقط في البداية.
وكل مَن تراهم الآن ناجحين مرّوا بهذه اللحظة، ولكنهم لم ينسوها. وإن نسوها، فليس لأنها لم تكن مؤلمة، بل لأنهم تجاوزوها.
**
استمر.
طوّر نفسك.
افهم السوق.
ابحث عن نقاط ضعفك.
ابنِ ملفك كما لو أنك تبني بيتك.
ولا تنتظر أن يُفتح لك الباب، بل كن أنت من يطرق كل الأبواب.
وفي يومٍ ما، ستنظر إلى الخلف، وتبتسم لتلك الأيام التي لم يرد عليك فيها أحد، لأنها كانت أول سطر في قصة نجاحك.
ولا تنسَ أبدًا أن أصعب شعور في العمل الحر ليس في قلة المال، ولا في ضغط العمل، بل في ذلك الصمت الثقيل حين لا يأتي أحد. وحين تكتب وأنت لا تدري إن كان هناك أحد يقرأ.
لكن ما أجمل أن تستمر، حتى وإن لم يصفق لك أحد.
لأنك حين تنجح، ستصفق لك الحياة كلها.
وستتذكّر أنك كنت هناك، وحدك، في البداية.
ولكنك لم تخرج.
بل بقيت.
وبنيت شيئًا يشبهك، ويليق بك.