recent
أخبار ساخنة

محرك بحث جوجل (Google search)

حين تُدرك قيمتك، تختار من يُشبهك

Mahmoud
الصفحة الرئيسية
رجل وامرأة يسيران في اتجاهين متعاكسين، بينهما شجرة ذات جذعين متداخلين، في مشهد هادئ يغلب عليه اللونان البنفسجي والأزرق، يعكس الانفصال بهدوء وسلام داخلي.

حين تُدرك قيمتك، تختار من يُشبهك… ليس تكبّرًا، بل نُضجٌ تأخر كثيرًا. الابتعاد عن كل من لا يُقدّر مكانتك ليس قسوة، بل علاج. علاجٌ للروح التي أُنهكت من التبرير، من التصحيح المستمر للمفاهيم، من الانحناء غير المُبرَّر لتقليص المسافات بينك وبين من لا يراك سوى ظلٍّ شاحب الحضور.

أن تبتعد، يعني أن تنجو. أن تفلت من تلك الدوائر التي تستنزفك دون أن تمنحك شيئًا. أن تُدير ظهرك لمن يتجاهل وجودك عمدًا، لا لأنك لا تهمه، بل لأنه اعتاد أن يراك دومًا حاضرًا مهما فعل.

الراحة الجسدية ليست فقط في ساعات النوم المنتظمة أو الجلوس في مكان هادئ، بل في تقليص حجم العلاقات التي تُسبب لك التوتر، والشك، والإرهاق الوجداني. كم من خلية في جسدك تشوّهت بسبب توترٍ صنعه قلبك من أجل من لا يستحق؟ كم من عرقٍ نبض في غير مكانه، ومن فكرةٍ تشعّبت في رأسك ليلًا بلا طائل؟ كل ذلك لأنك لم تُحسن الاختيار.

أما الصحة النفسية، فهي الحصن الأخير. هي ما تبقى لك من حصون إذا ما سقطت كل المعاقل. وإنك لا تدري كم من جرحٍ صغير في علاقتك مع من لا يُقدّرك، كفيلٌ بإحداث شرخ كبير في جدارك النفسي. الأمر ليس بتلك السهولة التي يتحدثون عنها. "انسَ وتجاوز"، يقولون، وكأنك تمتلك زرًّا للمسح الفوري!

لكن الحقيقة أن الألم لا يُنسى، بل يُعاد تشكيله في الذاكرة، بألوانٍ مختلفة، بأزمنةٍ متداخلة، وأحيانًا بأسماء جديدة. لذلك، فإن القرار بالابتعاد هو أشبه بإغلاق الباب الأخير قبل أن تنفجر العاصفة.

أما الكرامة، فهي ليست كماليات، بل ضرورة. هي الهواء النقي الذي تتنفسه علاقتك بنفسك أولًا، قبل أن تمده للآخرين. الكرامة أن ترفض أن تكون خيارًا ثانيًا. أن ترفض أن تكون متاحًا حين يحتاجك فقط، ثم تُعلّق على الرف حتى إشعارٍ آخر.

في المقابل، هناك من يُشبهك. من يرى ما لا يراه غيره فيك. من يعاملك كأنك كنز، لا لأنه مجبر، بل لأنه يُحب. من يبتهج بوجودك كما لو أنك حدثٌ سعيد في يومٍ ممل. من يُغدقك بحبٍ دون حساب، لا لأنه ينتظر مقابلًا، بل لأنه وجد فيك مرآةً تعكس له ذاته الجميلة.

جاوِر هؤلاء. أولئك الذين يؤمنون بك حتى وأنت في أسوأ حالاتك. الذين لا يهربون من ضعفك، ولا يُشهّرون بأخطاءك، ولا يبتعدون حين يبهت وهجك. أولئك الذين يخلقون ألف سبب للحديث معك، حتى لو كان الصمت هو كل ما في جُعبتك.

الذين يغزلون خيوط الوِدّ من أجلك، لا من أجل مصلحة. الذين يبقون رغم الفوضى، رغم البُعد، رغم انطفاء الحماس. الذين لا يحتاجون إلى أعذار ليرسلوا لك "كيف حالك؟"، ولا ينتظرون مناسبة ليرسلوا دعوة للقاء.

هؤلاء هم وطنك حين تغترب، ودفؤك حين تبرد. وجودهم في حياتك لا يُقاس بعدد الكلمات المتبادلة، بل بحجم الطمأنينة التي يزرعونها في قلبك.

لا تبحث عن عدد كبير من العلاقات، بل ابحث عن عمقٍ حقيقي. قد يُغنيك شخصٌ واحد عن مئة. قد تنقذك مكالمة واحدة من صديق صادق من الانهيار، بينما تُغرِقك المجاملات المُصطنعة في بحرٍ من الوحدة المزيفة.

أن تكون في محيطٍ يُشبِهك، يُقدّرك، ويُكمل ما بداخلك، هو في حد ذاته رحلة شفاء. لا تهدر طاقتك في محاولات إقناع من لا يريد أن يفهمك. ولا تستنزف روحك في بناء جسور لمن لا ينوي أن يعبر.

العلاقات ليست دائمًا مبنية على الحب فقط، بل على التقدير، على الاحترام، على أن يشعر كل طرف أن له قيمة. حين تغيب هذه الأركان، يتحول الحب نفسه إلى حملٍ ثقيل.

كم مرة حاولت أن تُقنع أحدهم أنك تستحق أكثر؟ كم مرة خففت من وهجك حتى لا يشعر الآخر بالنقص؟ كم مرة اعتذرت عن أشياء لم تفعلها، فقط لأنك تخاف أن تخسره؟ الخسارة الحقيقية هي أن تخسر نفسك في محاولة الاحتفاظ بمن لا يُقدّرك.

إياك أن تُقلل من نفسك لتُناسب قلبًا ضيق الأفق. إياك أن تُقزّم أحلامك، مشاعرك، روحك، لتُرضي من لا يفهم اتساعك.

الابتعاد قد يكون مؤلمًا في البداية، لكن صدقني، الألم الأكبر هو البقاء في مكان لا تنتمي إليه. أنت تستحق أن تُعامَل كما تُعاملهم. أن تُقدَّر كما تُقدِّر. أن تُحب بذات الصدق الذي تمنحه.

وإنّ في الوحدة المؤقتة، سلامًا أبديًا. وإنّ في الانسحاب من العلاقات المُسمّمة، حياةً جديدة.

أنت لست أنانيًا حين تختار نفسك. لست قاسيًا حين تُدافع عن كرامتك. لست مغرورًا حين لا ترضى بالقليل. أنت فقط نضجت. وعرفت أن الحياة أقصر من أن تُهدرها في أماكن لا تُثمر، ومع أناس لا يُزهرون فيك شيئًا.

احتفظ بقلبك لمن يستحقه، بصوتك لمن يُنصت له، بوقتك لمن لا يُضيعه، وبحنانك لمن يُثمّنه.

الذين يخلقون ألف سبب للحديث معك، لا يتكررون. والذين يغزلون خيوط الوِدّ من أجلك، هم نُدرة. فلا تُفرّط فيهم. وابحث عنهم، وإن تأخّروا، لا تيأس. سيأتون.

وحين يأتون، ستعرف أن كل الذين غادروا، كانوا ضرورة لتتعلم كيف تختار، وكيف تُحب، وكيف لا تُفرّط في نفسك من جديد.
google-playkhamsatmostaqltradent