recent
أخبار ساخنة

محرك بحث جوجل (Google search)

المعرفة لا تنقص حين تُهدى: بوح في قيمة العطاء

Mahmoud
الصفحة الرئيسية
صورة رقمية ناعمة بألوان الأزرق والبنفسجي تظهر شخصين يجلسان معًا تحت شجرة تتوهج بضوء الكتب، حيث يشارك أحدهما كرة ضوئية صغيرة ترمز إلى المعرفة مع الآخر، في مشهد هادئ ودافئ ملهم.

في عالمٍ باتت فيه المعلومة سلعة، والمنافسة شرسة، يصير فعل العطاء الكامل فعلاً ثوريًا. كم مرة ترددت في أن تخبر أحدهم بتفصيلة صغيرة تعلمها؟ كم مرة خفت أن يسبقك من علمته؟ تلك المخاوف الإنسانية مفهومة، لكنها ليست صحيحة دائمًا. بل كثيرًا ما تكون وهماً يقف في طريق نهضتنا الجمعية.

حين تقدم معرفة، لا تُنقص من ذاتك شيئًا. كأنك تشعل شمعة من شمعتك، فلا تنطفئ الأولى ولا تقلّ، بل يُضيء المكان أكثر. لا تبخل، لأن البخل في المعرفة خيانة لها، خيانة لروحها التي لا تنمو إلا بالمشاركة.

علّمتني التجربة أن أعطي كل ما أعرف. أن أقدّم خلاصة تعبي، ونتائج تجاربي، وأفكاري الصغيرة التي تراكمت مع الأيام. لا أنتظر شكرًا، ولا أخاف أن يسبقني من عرف ما أعرفه. لأنني مؤمن بأن ما لي سيأتيني، وأن من يعمل بصدق، ستُفتح له أبواب لم يتوقعها.

الحياة ليست منافسة على لقمة. ليست حلبة صراع دموية. هي مائدة ممتدة، فيها مكان للجميع. فقط حين نصدق النية ونخلع عنا أثواب الخوف، نرى ذلك بوضوح. لا أحد يأخذ رزق أحد، ولا أحد يسلب منك مكانتك حين تعطيه مفاتيح المعرفة. من يأخذها، سيصنع بها شيئًا مختلفًا، شيئًا يشبهه، لا يشبهك.

علمني العطاء أن أرتاح. أن أهدأ من صراع المقارنات، ومن قلق أن يُهزم "أنا". بل أصبحتُ أؤمن أن ما يُبنى على المشاركة أقوى، وأطول عمرًا. هناك طمأنينة جميلة في أن ترى من علمتهم يتقدمون. هناك فرح نقي حين ترى كلماتك تُثمر في عقول غيرك. هذا الفرح لا يُشترى ولا يُصطنع.

قد يقول أحدهم: "لكنهم سينسون فضلك، وقد ينسبون الفضل لأنفسهم!" نعم، هذا محتمل. لكنه لا يهم. أنت أعطيت لله، أعطيت لإنسانيتك، أعطيت لنفسك لتتطهر من الغرور والخوف والأنانية. لا تنتظر عرفانًا من أحد، فالعطاء الحقيقي لا يطلب المقابل.

وإن نسوك، فإنك لم تنس نفسك. ستجد في عمقك رضا وسلامًا لا يمنحهما أي تصفيق أو شكر خارجي. ستعرف أنك فعلت ما هو صحيح، وأنك لم تحجب نورك عن الآخرين خوفًا من أن يضيع.

نحن لا نملك المعرفة، بل نُؤتمن عليها. ما نعرفه اليوم هو نتيجة آلاف الجهود، آلاف التجارب والكتب والمعلمين والمواقف. فكيف لنا أن نحبس شيئًا لم نصنعه وحدنا؟ أن نمنع سيلًا جرى إلينا، من أن يستمر في الجريان؟

كل مرة منحت فيها ما عندي دون تحفظ، عاد إليّ أضعافًا. لا أتحدث عن مكاسب مادية، بل عن روابط، عن احترام، عن فرص، عن أناس فتحوا لي قلوبهم فقط لأنني لم أُخفِ عنهم شيئًا.

المعرفة التي تعطيها بصدق، تصير سفيرتك في قلوب الناس. تخلق لك سُمعة صافية، وتفتح لك أبوابًا لا تعرف كيف فُتحت. تصبح أنت الشخص الذي يُرجع إليه، ويُؤتمن على السؤال والجواب.

وحتى إن واجهت من يستغل عطائك أو يقلل من قيمتك، لا تتراجع. هم قِلّة. أما الباقون، فسيبنون عليك. سيذكرونك في مجالسهم، وسيردّون الجميل لمن بعدهم، لأنهم تعلموا من عطاءك معنى العطاء.

أعلم أن في زمن السرعة والضغط والمقارنات، يصعب أن نكون طيبين بلا حساب. يصعب أن نفتح أيدينا في عالم يتحدث بلغة "الفرص النادرة" و"البقاء للأقوى". لكن الأصعب أن نعيش في ظل الخوف. الخوف من أن نُسرق. من أن نُتجاوز. من أن يُنسى فضلنا.

عِش براحتك، وامنح بما تعرف. لا تخشَ على نفسك من ضياع، فالكون يعيد لنا ما نزرعه، أضعافًا. فقط لا تتوقف. لا تندم على لحظة كنت فيها كريم المعرفة، لأن في ذلك لحظة نادرة من انتصار الإنسان فيك.

كم مرة كنت على وشك أن تُعلّم أحدهم شيئًا، فتراجعت؟ خفت أن "يتفوق"؟ أن "يأخذ مكانك"؟ وأنا أيضًا مررت بذلك. لحظات من التردد والشك. لكنّي كنت أعود لنفسي، أسألها: ما قيمة ما أملك إن لم أُعطِه؟ وما جدوى المعرفة إن بقيت حبيسة؟

كلنا راحلون. وما يبقى منّا ليس ما جمعناه، بل ما منحناه. الكلمة التي قلتها فألهمت. الفكرة التي منحتها فغيّرت. المعلومة التي شرحتها ففتحت عقلًا أو أنقذت مسارًا.

ليتنا نعيد النظر في طريقة تعاملنا مع المعرفة. ليتنا نُربي أبناءنا على أن العطاء ليس ضعفًا، بل شجاعة. على أن الكرم لا يقتصر على المال، بل هو أيضًا في الفكرة، في الوقت، في النية الصافية.

وهذا لا يعني أن نُعطي بلا حدود أو نُرهق أنفسنا. بل أن نُعطي بحكمة، دون خوف. أن نضع حدودًا حين نحتاجها، ولكن دون أن تُبنى هذه الحدود على قلق أن "نُنافس". لأن المنافسة الحقيقية ليست ضد الآخر، بل مع أنفسنا. هل نحن أفضل مما كنا؟ هل تطورنا؟ هل تركنا أثرًا طيبًا؟

في كل مرة تمنح فيها من خبرتك، تُعيد تشكيل العالم بطريقة أصدق. تساهم في بناء دوائر من الفهم والتطور. تخلق بيئة عمل، أو مجتمعًا، أو دائرة من الأصدقاء تُؤمن بأن القوة لا تعني الإخفاء، بل المشاركة.

أعرف أن هناك من يُخفي كل ما يعرف. يخاف من أن يعرف غيره مثله. يعيش في قلق دائم. يراقب من حوله، يحصي خطواتهم، يتحسس على رزقه كأن العالم ضيق، كأن الخير لا يكفي. هذا التعب لا يستحقه أحد.

وأنت لست بحاجة لتلك الحرب النفسية. يمكنك أن ترتاح. أن تمنح وأنت مطمئن أن ما لك لن يضيع، وأن ما تعطيه سيعود لك، ولو بعد حين، في شكل حب، أو دعوة، أو فرصة، أو ببساطة، في راحة الضمير.

نحتاج إلى ثقافة جديدة. ثقافة تقول إن العالم واسع، والفرص كثيرة، وأننا حين نُعلّم ونُرشد ونُعطي، فإننا نُكبر أنفسنا قبل غيرنا. نُثبت لأنفسنا أننا لسنا خائفين. أن الثقة بالنفس لا تعني الحذر، بل الانفتاح.

ثق أن ما تُعطيه لن يذهب سُدى. وأن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً. وأن الخير حين ينتشر، يعود إليك على نحو لا تتوقعه.

وفي نهاية يوم طويل، حين تراجع ذاكرتك، لا شيء يسعد أكثر من شعورك بأنك تركت أثرًا. بأنك كنت سببًا في نور شخص ما. بأنك لم تبخل.

امنح. امنح بعقل، لكن من قلب. امنح لأنك إنسان، ولأن المعرفة إن لم تُمنح، تموت.
google-playkhamsatmostaqltradent