recent
أخبار ساخنة

محرك بحث جوجل (Google search)

حين يُحذف الوجود بكبسة زر: بوح مكلوم من صانع محتوى

Mahmoud
الصفحة الرئيسية
رسم تعبيري لشخص جالس أمام شاشة كمبيوتر مظلمة، يعكس وجهه تعابير الحزن والخذلان، تحيط به أوراق وأيقونات رقمية تتلاشى في الهواء، مع خلفية بألوان الأزرق والبنفسجي الداكنة، يظهر شعار منصة Quora باللون الأحمر وسط المشهد، معبرًا عن شعور الخسارة الرقمية والانعزال الاجتماعي.

لم أكن أتصوّر يومًا أن تُسدل الستائر فجأة على رحلةٍ امتدّت لسنوات، أن يُغلق بابٌ كنت أدخله كل يوم كأنني أدخل بيتي، ألقي فيه كلماتي، أترك فيها شيئًا من قلبي وعقلي، ثم أخرج بطمأنينة مَن زرع بذرة وينتظر ثمرها ذات يوم. لكن هذا الباب أُغلق في وجهي، بلا سابق إنذار، بلا تفسير حقيقي، بلا وداع. لقد حُظر حسابي على منصة كورا بالعربية.

سنوات طويلة من الجهد، من الليل الذي سهرته وأنا أراجع كل كلمة أكتبها، ومن النهار الذي قضيته في التأمل والبحث والتفكير حتى تكون إجابتي مفيدة، حتى أكون صادقًا مع نفسي أولًا ومع من يقرأني. سنوات، لم تكن مجرّد منشورات عابرة، بل كانت نبضًا منّي، وفكرًا آمنت بأنه يستحق أن يُشارك. وفجأة، يُسلب كل شيء!

لا أزال أذكر المرة الأولى التي أنشأت فيها حسابي، كنت أشعر أنني أنضم لمكان سيجمعني بعقول تهتم، وقلوب تفكّر، وعيون تفتّش عن المعنى. كنت أؤمن بأن المعرفة لا تموت، وأن كل إجابة أكتبها قد تصل إلى شخص في لحظة احتياج، فتُنير له طريقًا، أو تمنحه سكينة، أو توقظ فيه فكرة. ولهذا، كنت أعطي من وقتي وجهدي بلا حساب.

ثم وصلت إلى أربعة آلاف متابع، رقم ليس كبيرًا في عيون البعض، لكنه في عينيّ كان يعني أربعة آلاف نافذة على قلوب تبحث. اقتربت مشاهدات منشوراتي من عشرة ملايين. عشرة ملايين مرة دخل فيها شخص ما ليقرأ كلماتي، عشرة ملايين احتمالية أن يكون ما كتبته قد أحدث فرقًا، حتى لو كان بسيطًا.

لكن، ما قيمة كل هذا حين يُمحى في لحظة؟ حين يأتي القرار النهائي بالحظر، وكأنك لم تكن، وكأن كل تلك السنين لم تكن سوى رقمًا يُحذف بكبسة زر؟! لا رسالة تحذير، لا مراجعة، لا إنصاف. فقط، قرار قاسٍ، جاف، بلا مبرر، وبلا حتى فرصة للرد.

أتساءل: هل من المنطقي أن يُمحى كل ما كتبته لمخالفة واحدة؟ أين المنطق في حذف الحساب بدلًا من حذف المحتوى المخالف فقط؟ ألا يُمنح الإنسان فرصة للتوضيح أو التراجع أو التصحيح؟ أم أن القسوة أصبحت هي القاعدة؟

تجربة كهذه ليست مؤلمة فقط، بل مربكة. تجعلني أعيد النظر في كل ما ظننته ثابتًا، وتُضعف إيماني بتلك المنصات التي كنت أراها بيتًا للمبدعين، فإذا بها تتحول إلى ساحة لا ترحم، تُقرّر فيها الخوارزميات أو قرارات فردية مصير سنوات من التعب.

أفكر الآن: من يُنصف صانع المحتوى؟ من يحمي جهوده؟ إذا لم تكن المنصة التي ساهم في إنجاحها، والتي منحها من وقته ومواهبه، تعترف بفضله، فمن يفعل؟

لقد رأيت الكثيرين يتعرّضون لنفس المصير. أسماء نعرفها ونحترمها، أُغلقت حساباتهم دون إنذار. فهل أصبحت هذه هي القاعدة؟ وهل نحن مجرّد أرقام يمكن شطبها في أية لحظة؟ ما جدوى بناء مجتمع معرفي إن كانت أدواته لا تحمي من يشيّدونه؟

منذ أن غادر محمد اللبان، بدا أن الأمور في كورا العربية تتجه نحو الاضطراب. الرقابة البشرية غائبة تقريبًا، والإشراف أصبح أقرب للغيبوبة، بينما تُترك القرارات للأنظمة الآلية، أو تُتّخذ بجمود غريب.

ليس من العدل أن تُلغى آلاف الإجابات القيّمة لمجرّد خطأ، قد يكون بسيطًا، أو حتى قابلاً للتأويل. هذه الإجابات التي استند إليها آلاف المتابعين، واعتبروها مراجع، تُمحى، كأنها لم تكن، كأنها لم تُكتَب أبدًا.

والأدهى، أنك حتى لو قدّمت مصادر ومراجع داعمة، قد تُتهم بالسرقة أو التلاعب. وحتى لو اجتهدت في الالتزام بسياسات المنصة، فأنت لست آمنًا. السياسات تتغير دون إعلان، والمقاييس غير واضحة، ومجرد شك قد يكلفك وجودك.

أكتب اليوم من وجع، لا أنكر ذلك. أشعر كما لو أنني فقدت جزءًا مني. أفكر بكل تلك اللحظات التي كتبت فيها بحب، بكل أولئك الذين تفاعلوا معي، بكل الرسائل التي جاءتني من أناس قالوا إن كلماتي ساعدتهم. أين ذهب كل ذلك؟ من يعتذر لي عن هذا الألم؟ ومن يعوّضني عنه؟

أمنيتي الوحيدة الآن، أقول لو أنني كنت قد خزّنت محتواي في مكان آخر، في قناة تيليجرام، أو على جوجل درايف، أو حتى في ملف وورد على سطح المكتب. لكن من يظن أن بيته لن يُهدم، يُغفل الحذر. وثقتُ بالمكان، فخسرتُ الذكريات.

أصبحت الآن أنظر بريبة لكل منصة. فيس بوك؟ من يضمن أنها لن تفعل الشيء نفسه غدًا؟ تويتر؟ يوتيوب؟ لا أمان حين لا تملك المساحة التي تكتب فيها. وحين يكون وجودك مربوطًا بشروط قد تتغير في أية لحظة، وتُنفّذ دون نقاش.

المؤلم أكثر، أن البعض لا يزال يروّج لتلك المنصات، يدعو إليها أصحاب المشاريع، يزفّها وكأنها الحلم المنتظر. أي حلم هذا حين يُحذف الحلم؟ أي مستقبل نبنيه على رمال متحركة؟!

تعبت من هذه الدورة المؤذية: تُعطي، تُنتج، تُشارك، ثم تُفقد. ثم يُقال لك: آسف، انتهى الأمر. وكأنك لم تكتب، وكأنك لم تُعطِ، وكأنك لم تكن.

أقولها من قلبي: أشعر بأن المحتوى العربي يعيش خطرًا حقيقيًا. ليس فقط من حيث الجودة، ولكن من حيث البقاء. من يكتبون بصدق يُلغون، ومن يخالفون أحيانًا يُكافؤون. من يُبدع يُقصى، ومن يُقلّد يُرحّب به.

أي رسالة تُرسلها هذه السياسات للمبدعين؟ أن يصمتوا؟ أن يرحلوا؟ أن يكفّوا عن الحلم؟ لا أعلم. لكن ما أعلمه هو أن ما حدث لي لم يكن مجرد حظر لحساب، بل كان خيبة في منظومة كاملة. خيبة في مفهوم كنت أظنه ثابتًا: أن الجهد لا يضيع، وأن الكلمة لا تُقتل.

أشعر بالغربة على تلك المنصات. أشعر أنني ضيف ثقيل، لا يُرحّب به إن قال شيئًا مختلفًا، أو إذا اجتهد أكثر من اللازم. غربة الكاتب في عالم لا يحمي كتابته، ولا يحترمها، غربة لا تُوصف.

أكتب اليوم لا لأنني أريد الانتقام، ولا لأني أطلب العودة. بل لأنني لا أريد أن أدفن صوتي بصمت. أكتب لأقول لكل من عاش مثلي هذه التجربة: لست وحدك. وأكتب لكل من لم يُمنع بعد: لا تأمن.

المنصات ليست بيتك، فلا تترك كل مفاتيحك فيها. احتفظ بنسخ من كتاباتك. كوّن جمهورك خارجها. لا تكن رهينة مكان واحد. اكتب بحرية، نعم، لكن بحذر. ليس خوفًا، بل وعيًا.

وختامًا، أقول: ربما يُغلق باب، لكن الكلمة لا تُحظر. ربما يُمحى حساب، لكن الأثر يبقى في الذاكرة، في القلوب، في العقول. وربما أبدأ من جديد، لكنني لن أعود بذات الثقة. لأن مَن أُحرق مرّة، لا ينسى الدخان بسهولة.

ربما لم أعد أمتلك المكان، لكنني ما زلت أمتلك الصوت. والصوت، حين يصدر من وجع، يكون أكثر صدقًا، وأبقى أثرًا.
google-playkhamsatmostaqltradent