recent
أخبار ساخنة

محرك بحث جوجل (Google search)

استرداد الحياة من بين أصابع فيسبوك

Mahmoud
الصفحة الرئيسية
رسم رقمي لشخص جالس في غرفة مظلمة مضاء فقط بضوء شاشة هاتفه المحمول، تعبير وجهه يعكس التعب والتأمل، تحيط به رموز وسائل التواصل الاجتماعي، مما يرمز إلى الإلهاء واستنزاف الوقت. الألوان الهادئة بالبنفسجي والأزرق تناسب تصميم مدونة.

في ليلة هادئة، بينما كانت الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل، تساءلتُ في داخلي: "ما الذي أفعله هنا؟ لماذا لا أزال أتصفح هذه المنصة التي لم تترك فيّ إلا الخواء؟". الحقيقة أنني كنت على فيسبوك، مجددًا، ككل ليلة تقريبًا. أقلب الصفحات، أقرأ منشورات لا تعنيني، أضحك على نكات مكررة، أعلّق أحيانًا بدافع المجاملة، وأحيانًا بدافع الملل. ثم تمر الساعات دون أن أشعر، وكأن الوقت يذوب على الشاشة، وذوبانه يذيبني معه.

إننا نعيش في زمنٍ تحوّل فيه العالم الرقمي من وسيلةٍ إلى غاية. لم يعد فيسبوك أداةً للتواصل، بل أصبح مأوى للهروب، ومكانًا للاختباء من الذات، من الالتزامات، من اللحظة. لكن، في نهاية كل جلسة تصفّح، ينهض الواحد منّا مثقلاً أكثر مما كان، منهكًا بطريقة لا يفهمها، ضائعًا بين ما رآه وما شعر به، بين ما أراد فعله وما فعله فعلاً.

فيسبوك، تلك المنصة التي دخلت إلى حياتنا على استحياء، أصبحت تجلس في منتصف كل شيء. أصبحت موجودة بيننا وبين أنفسنا، بيننا وبين من نحب، بيننا وبين أبسط لحظاتنا. صرنا نأكل والصفحة أمامنا، نشرب ونقرأ تعليقًا سخيفًا من أحدهم، نزور أقاربنا ونحن نحدّق في شاشةٍ أخرى غير وجوههم.

قبل فترة ليست بالقصيرة، بدأت فكرة إغلاق حسابي تراودني. لا رغبة في الابتعاد عن العالم، بل العكس تمامًا: رغبة في الاقتراب من نفسي. أن أعود إليّ، دون أن يتوسطني فيسبوك بيني وبين لحظتي. فكرت أن أكتفي فقط بالصفحات التي تخدمني عمليًا، تلك التي تزوّدني بالمعلومات المفيدة أو بأخبار تتعلّق بمجالي المهني. أما الباقي؟ فلم أعد أحتمل سيل الصور، والمقاطع، والأحداث، والمبالغات، والجدالات، والمقارنات.

عندما تفكّر بالأمر منطقيًا، تجد أن فيسبوك لم يعد مجرّد منصة. إنه نمط حياة، أو بالأحرى، اختطاف حياة. ففي كل مرةٍ تقول فيها "سأتفقده لدقيقتين فقط"، تجد نفسك بعد ساعةٍ أو أكثر، لا تعرف كيف مرت، ولا ماذا قرأت خلالها. وتخرج منه، لا بوعيٍ أكبر، ولا بفكرةٍ أعمق، بل بتشويش أكثر، بقلقٍ غير مبرر، وأحيانًا بشعور خفيّ بالنقص أو العجز.

أنا لا ألوم الناس، فالجميع وقع في المصيدة ذاتها. وربما الأسوأ من ذلك، أننا ندرك فداحة ما نحن فيه، لكننا لا نفعل شيئًا حياله.

قررت مؤخرًا استخدام ميزة "إدارة الوقت" التي يوفّرها التطبيق. ميزة جميلة على الورق، لكنها مؤلمة حين تراها في التطبيق العملي. فعندما تظهر لي رسالة تقول "لقد وصلت إلى الحد الزمني اليومي"، أجدني أضغط بكل هدوء على زر "أضف 15 دقيقة"، ثم أخرى، ثم أمدّد الوقت بنفسي، وكأنني أطلب من سجّاني أن يربطني أكثر. وفي نهاية اليوم، أكتشف أنني قضيت ساعة ونصف على الأقل، لكنني لا أتذكّر من هذه الساعة شيئًا يستحق.

وما يزيد الأمر مرارة، أنني بدأت أستخدم فيسبوك أثناء القيام بأبسط أنشطتي اليومية: أثناء تناول الطعام، أثناء مشاهدة التلفاز، أثناء الحديث مع أحبّتي. حتى اللحظات التي يُفترض أن تكون خاصة، شخصية، مليئة بالحياة، أصبحت ممتزجة بحضور هذا الضيف الثقيل الذي لا ينفكّ يقتحمها.

الأمر تعدى حدود الاستخدام، إلى الإدمان. ولم يعد إدمانًا ترفيهيًا، بل استنزافًا يوميًا للزمن، للذهن، للمشاعر.

البعض يقول لي: "ولكنه وسيلة للترفيه، أليس كذلك؟". نعم، ولكن بأي ثمن؟ هل من الترفيه أن أخرج منه مثقلًا بالتشتّت؟ هل من الترويح أن أقارن حياتي بما ينشره الآخرون، حتى دون أن أدرك أنني أقارن؟ هل من الراحة أن أستهلك الأخبار والجدالات والثرثرة التي لا تضيف شيئًا سوى الضجيج؟

ترفيهٌ بلا روح، واستهلاكٌ بلا وعي.

كل منشور، كل تعليق، كل تفاعل، له أثر. ربما لا نراه، لكنه يتراكم فينا، على هيئة توتّر، أو قلق، أو شعور غامض بالفراغ.

وفيسبوك، بما فيه من خوارزميات ذكية، يعرف كيف يُبقيك هناك. كيف يُغريك بالبقاء. كيف يُظهر لك ما يشدّك، ويخفي ما لا يهمّك. وكل هذا لا يُدار صدفة، بل يُدار بعناية، لكي يضمنوا أنك لن تخرج.

لكن ماذا لو خرجت فعلًا؟ ماذا لو قررت أن تقطع هذا الخيط الذي يربطك؟ هل حقًا ستخسر شيئًا؟

أكاد أجزم أنك لن تخسر إلا ما يستنزفك.

أن تغلق حسابك – أو حتى تبتعد عنه تدريجيًا – يعني أن تستعيد شيئًا كان لك يومًا ما: وقتك. نعم، وقتك، ذاك الكنز الذي يتبدّد على الشاشة.

وأن تستعيد وقتك، يعني أن تبدأ رحلة العودة إلى نفسك، إلى بيتك، إلى من حولك، إلى لحظاتك التي كانت تمرّ دون أن تلاحظها لأنك كنت منشغلاً بما يقوله الآخرون عن حياتهم.

أن تقلل من استخدامك لفيسبوك هو دعوة للوضوح. هو إعلان صامت أنك اخترت أن ترى الحياة بعينيك، لا من خلال شاشةٍ ملونة. أنه يكفيك من العالم ما يحيط بك، وما يكفيك من الرفقة من يمكنك لمس أيديهم، وسماع أصواتهم، لا تعليقاتهم المتباعدة.

أعرف أن القرار ليس سهلاً، ولا أتحدث من موقع المعلّم أو المتنصّل. أنا أيضًا غُرّرت كثيرًا. وأنا أيضًا انزلقت في هذا المستنقع. لكنني الآن، مع كل محاولة لإغلاق التطبيق، أشعر أنني أستعيد قطعة مني كنت قد نسيتها هناك.

فالحياة أقصر من أن نقضيها نقرأ جدالات عن قضايا لن نؤثر فيها، ونشاهد حياةً لا تشبهنا، ونُفرط في استهلاك أعيننا وأعمارنا فيما لا يُفيد.

صدقًا، كل من جرّب الإقلاع عن فيسبوك – حتى إن لم يكن نهائيًا – عاد بشهادةٍ واحدة: أن حياته أصبحت أكثر هدوءًا، ووقته أكثر قيمة، ونومه أعمق، وعلاقاته أقرب، وأنه أخيرًا بات يعيش اللحظة دون أن يسابقها إلى النشر أو التعليق.

أنا لا أدعو إلى ترك التكنولوجيا، ولا أدعو للانعزال. كل ما أريده هو القليل من الوعي، القليل من المقاومة.

دعوة لأخذ خطوة إلى الوراء، وإعادة التفكير.

ربما يكفي أن نلغي متابعة الجميع، ونبقي فقط على ما نحتاجه فعلًا. وربما يكفي أن نحدّد وقتًا محددًا لاستخدام التطبيق، لا أن نستخدمه كيفما اتفق. وربما – فقط ربما – يكفي أن نطفئ الشاشة أحيانًا، ونفتح أعيننا على العالم الحقيقي.

العالم الذي لا يحتاج إلى إعجابات، ولا تعليقات، ولا "شير". فقط يحتاجك أن تكون فيه، بكلك، بحضورك، دون وسطاء.

ففي النهاية، ليست الحياة ما نراه على فيسبوك. الحياة هناك، في الخارج، تنتظرنا لنعيشها.
google-playkhamsatmostaqltradent