لقد صادفت يومًا إجابة أثارت في داخلي تساؤلات لا حصر لها، إجابة من تلك التي تترك بداخلك أثرًا عميقًا لا ينتهي بسهولة. كان السؤال بسيطًا وعفويًا للغاية: "هل الثراء يستحق التعب من أجل الوصول إليه؟"، لكنه من نوعية الأسئلة التي تبدو ظاهريًا سهلة، بينما هي معقدة للغاية في عمقها ومعناها الحقيقي.
الإجابة التي صادفتها لم تكن مجرد كلمات مكتوبة، بل كانت تجربة إنسان مرَّ بكل التفاصيل التي نحلم بها ونتخيلها، ونعتقد أن حياتنا ستتغير كليًا بمجرد امتلاكنا للمال. هذه الإجابة قلبت كياني، وجعلتني أتوقف طويلاً أمام ما كنا نتصور أنه الجنة الأرضية: الثراء.
قد يبدو في البداية أن الغنى هو الحلم الوردي الذي سينهي كل آلامنا ومتاعبنا، لكنني كلما فكرت في الأمر، أدركت أن الأمر ليس بهذه البساطة على الإطلاق. تلك الإجابة جعلتني أنظر إلى نفسي، إلى أحلامي وطموحاتي ومخاوفي، بطريقة لم أعتد عليها من قبل.
تخيلت للحظة أنني أصبحت ثريًا، وحاولت أن أرى العالم من تلك الزاوية الجديدة التي يبدو فيها كل شيء ممكنًا، لكن المفاجأة الحقيقية كانت عندما تساءلت: هل ستكون حياتي أجمل فعلًا حينها؟ هل سأبقى نفس الشخص الذي أحببته وعرفته طوال عمري؟ أم أن المال سيغيرني ويحولني إلى إنسان آخر لا يشبهني؟
أصعب ما واجهني في تلك اللحظة، هو شعوري العميق بأن المال قد يبعدني عن حقيقة من أكون. ربما يبدو للبعض أمرًا تافهًا أو غير منطقي، لكنه حقيقي ومؤلم؛ أن تفقد ذاتك وأنت تركض خلف شيء كنت تظنه سيمنحك السعادة.
تخيلت أنني في عالم لا أفكر فيه بمصاريفي اليومية، هذا أمر رائع، لا أنكره، لكن تلك الحرية ليست بلا ثمن. إنه ثمن لم يكن يخطر في بالي: أنني لن أعد قادرًا على أن أشكو أو أعبر عن مشاعري كأي إنسان طبيعي، لأن الجميع سيعتبر أن امتلاكي المال يمنعني من الشعور بالألم أو الحزن أو الضيق.
أشعر وكأنني في سجن كبير، سجن صنعه الآخرون من تصوراتهم عن معنى الثراء والسعادة. لم أكن أتوقع أن الغنى سيجعلني أكثر حذرًا، وأكثر قلقًا بشأن نوايا الناس الذين يقتربون مني. هل يبتسمون بصدق، أم أنها ابتسامة مزيفة لإخفاء دوافعهم الحقيقية وراء اقترابهم مني؟
هذا الشك الدائم لا يُحتمل، خاصة عندما أفكر في علاقة عاطفية. هل يمكنني حقًا أن أثق بأن شخصًا ما يحبني لشخصي وليس لما أملكه من أموال؟ هذا السؤال كفيلٌ وحده بأن يجعلني أعيد النظر في فكرة السعادة بأكملها.
ثم هناك العلاقات الإنسانية الأعمق، عائلتي وأصدقائي الذين رافقوني في كل لحظة من حياتي. أخشى أن تصبح نظراتهم إليَّ مختلفة، وأخشى أن أفقدهم بسبب شيء كنت أعتقد أنه سيقربني منهم أكثر. الأمر أشبه بأنني في معركة لا نهائية للحفاظ على طبيعية العلاقة معهم، وإقناعهم أن المال لم يغير شيئًا بيننا، رغم أن الواقع قد يكون مختلفًا تمامًا عما أتمناه.
وكم هو محرج وصعب أن تكون مضطرًا إلى قياس محبتك لهم عبر الهدايا، بينما هم ينظرون إليها بحسابات مختلفة تمامًا، فيشعرون بالإحباط إذا لم تكن الهدية بمستوى توقعاتهم. هذه التفاصيل الصغيرة تكفي كي تشعرك بالغربة، بالعزلة، بأنك وحيد وسط من تحب.
ليالي طويلة قضيتها أتساءل عن كل شيء، عن القرارات التي يمكن أن تفقدني ما حققته، عن الشعور بالضياع حين يصبح لدي الكثير لأخسره. الخوف من الخسارة قد يكون أكثر إيلامًا من الخوف من عدم الامتلاك أساسًا. هذه الأفكار ترعبني، تجعلني أتردد ألف مرة في كل خطوة أخطوها.
لطالما ظننت أن المال سيجلب لي ما عجزت عن الحصول عليه من قبل، لكنني أدركت حقيقة قاسية: أن ما نرغب به بشدة يصبح عادياً تمامًا بمجرد الحصول عليه. تلك السيارة الفارهة أو المنزل الفخم أو السفر إلى وجهة الأحلام، كلها أشياء تبهت قيمتها بسرعة عندما تصبح في متناول اليد. هذه هي المفارقة التي لم يخبرنا بها أحد من قبل.
يبدو أننا محكومون بالبحث المستمر عن شيء أكثر إثارة، شيء يملأ الفراغ الذي يتركه في نفوسنا التعود على الأشياء، فنصبح كمن يسير في متاهة بلا نهاية، دائمًا هناك هدف جديد، سقف أعلى من السابق، متعة أكبر نبحث عنها، ومع كل مرة نكتشف أن السعادة ليست هناك.
الحياة علمتني من خلال تلك الإجابة التي صادفتها أن المشكلة ليست في المال نفسه، بل في تصوراتنا عنه، في الهالة التي نصنعها حوله، كأنه إكسير سحري سيعالج كل مشاكلنا. الحقيقة أنه لا يستطيع سوى علاج المشاكل التي تتعلق بالمال فقط، ولا يقترب أبدًا من مشاكل أرواحنا.
ما يؤلمني أكثر أن المجتمع لا يسمح للأثرياء بأن يظهروا ضعفهم أو شعورهم بالنقص أو الحزن، كأننا حكمنا عليهم مسبقًا بأن حياتهم يجب أن تكون مثالية تمامًا. كم هو ظالم ذلك الشعور حين تكون في قمة الاحتياج للبوح والتعبير، ثم تجد نفسك مجبرًا على الصمت لأن من حولك لن يتفهموا أبدًا أن المال ليس كل شيء.
في النهاية، أدركت أن الثراء يستحق التعب، ربما، إذا كانت أهدافك واضحة، وأنت تعلم جيدًا أن المال لن يحل مشاكل نفسية أو روحية لديك. الثراء يستحق التعب إذا كنت قادرًا على ألا تخسر نفسك، وأن تحتفظ بروحك بعيدًا عن طوفان المال الذي يغير كل شيء من حولك.
لكن الأهم من كل ذلك، هو ألا تربط سعادتك بالثراء أو بأي شيء مادي. سعادتك الحقيقية في داخلك، في قدرتك على العيش كما تريد أنت، لا كما يريد منك الآخرون.
تعلمت أخيرًا أن حياتي يجب أن تكون ملكي وحدي، وأن المال لا يجب أن يكون هدفًا نهائيًا، بل وسيلة تمكنني من عيش الحياة كما أريد، وليس كما يفرضه عليّ المجتمع وتوقعات الآخرين.
كن أنت دائمًا، سواء كنت غنيًا أو فقيرًا، لأن حياتك الحقيقية تبدأ عندما تدرك أن السعادة قرار، وليس شيئًا يمكن شراؤه بأي ثمن.