recent
أخبار ساخنة

محرك بحث جوجل (Google search)

حين تكتب للفراغ

Mahmoud
الصفحة الرئيسية
رجل كرتوني يجلس ليلاً على طاولة يكتب في ورقة، يظهر عليه الحزن والتأمل، وخلفه منظر هادئ بألوان بنفسجية وزرقاء وقمر في السماء.

أُشارك أفكاري ومنشوراتي على فيسبوك، فتصل إلى عدد كبير من الناس، ويأتي التفاعل كالسيل… إعجابات، تعليقات، مشاركات.
لكن ما إن أضع رابطًا لمقال كتبته بقلبي وعقلي، حتى يصير الصدى صمتًا، ويغيب التفاعل تمامًا، وكأن الرابط حجاب يفصل بيني وبينهم.

لا أفهم السبب… هل هو خوارزميات المنصة؟ أم عزوف الناس عن القراءة؟
أم أن الكلمة عندما تُحاط برابط تُفقد حرارتها؟

كل ما أعرفه أنني أكتب لأنني أحب أن أكتب، وأشارك لأن في داخلي شيئًا لا يُحتمل كتمانه.
لكن حين لا يصل ما أكتبه إلى أحد، أشعر وكأنني أتكلم مع الفراغ…
وأتساءل: ماذا أفعل؟

أحيانًا أشعر أن الكلمة، حين تُحب وتُروى بروح صادقة، لا ينبغي أن تُقابل بهذا البرود.
لكنني أقف أمام هذا الواقع كمن يطرق أبوابًا كثيرة، ولا يُفتح له سوى القليل.
هل العيب في طَرقي؟ أم في الأبواب ذاتها؟
أم أن الوقت تغيّر، ولم يعُد للكلمة مكان في زحام الصور والفيديوهات والتمريرات السريعة؟

أكتب كمن يُلقي بقلبه على الورق، ثم يُعلّقه على جدارٍ رقمي وينتظر…
ينتظر من يراه، من يلتقطه، من يقول له: "أنا شعرت بك".
لكن لا أحد يأتي.
ولا تعليق، لا إعجاب، لا مشاركة.
وكأن العالم صار مغمض العينين عن الحروف، مفتوحًا فقط على الصخب.

أريد فقط أن يفهم أحدهم أنني لا أكتب للنجاح أو الأرقام، بل لأني أتنفس بالكلمات.
كل نصٍّ أكتبه فيه شيء مني، قطعة من روحي، غُصة ربما، أو رجاء لا أستطيع حمله وحدي.
فهل أذنب إن وضعت رابطًا ليقود أحدهم إلى هذا القلب المكشوف؟
هل باتت الروابط سُمًّا رقميًا في زمن اللاقراءة؟

أحسد أحيانًا من يكتبون دون رغبة في أن يقرأ لهم أحد.
أحسد هؤلاء الذين يحتفظون بنصوصهم في دفاتر مغلقة، أو على هواتفهم بصمت، لا يريدون من هذا العالم شيئًا.
أما أنا، فلي ضعفٌ صغير:
أحتاج أن يشعر أحدهم بما أكتب.
أن يتوقف لحظة، يقول: "كأنك كتبت عني".

لكن هل صار هذا كثيرًا؟
هل صارت المشاعر عبئًا في زمن السطحية؟
أم أن من يتوقف ليقرأ، يملك قلبًا لم يمسّه التيه بعد؟
فأين هؤلاء القلوب؟ أين هذه الأرواح التي تتريّث أمام حرفٍ أو وجعٍ مكتوب؟

كلما نشرت رابط مقال، أشعر أنني أُطلق طائرًا في فضاء معتم، لا أراه يعود، ولا أسمع صوت جناحيه.
وحين أعود بعد ساعات لأتفقده، أجد الصمت…
كأن لا أحد رآه، أو أن كل من رآه نظر إلى الجهة الأخرى.
وأعود لأسأل نفسي: لماذا أكتب؟
ثم أُجيبها بذات الصدق: لأني لا أملك ألا أكتب.

الكتابة ليست وسيلة لكسب الإعجابات، ولا لتكديس المشاركات، بل هي طريقتي الوحيدة لأتعايش.
أنا أكتب لأستمر.
وحين لا يقرأ أحد، أشعر أن استمراري في خطر.
كأن العالم يقول لي: "اصمت، لا أحد مهتم".

لكنني أُصر، وأُعاود، وأكتب من جديد…
ليس لأنني متفائل، بل لأنني لا أعرف طريقًا غير هذا.

أعلم أن الخوارزميات تغيّرت، وأن فيسبوك لم يعد ساحة للأفكار العميقة، بل لسخرية عابرة أو صورة ملفتة.
أعلم أن الروابط تُقلّص الوصول، وأن الناس لا يريدون أن "يخرجوا" من التطبيق ليقرؤوا في مكان آخر.
كل هذا أفهمه.
لكن ما لا أفهمه، هو كيف صار الوقت أغلى من التأمل؟
كيف صار القارئ يهرب من النص وكأنه يهرب من مسؤولية شعورية؟

هل أصبحنا نخاف أن نُحس؟
هل القراءة تُثقل القلب في زمن خفيف؟
أم أن الكلمة حين تكون حقيقية، تُرعب من اعتادوا المجاملة أو السطحية؟

صرت أراقب كيف يمر الناس على منشوراتي، يتوقفون عند المزاح، يضحكون، يعلقون، يشاركون.
ثم يرون المقال، فيمرون عليه وكأنهم لم يروه.
كأن أعينهم تغمض حين يظهر الرابط.
وحين أضع رابطًا دون كلام، أراقب بصمت…
وكأني أنا ومقالي نختفي من الوجود.

أحيانًا أفكر أن أكتب المقال كله كمنشور، بدون رابط، بدون عنوان، فقط سطور من قلبي.
لكن كيف؟
كيف أشرح في منشورٍ واحد ما تحتاجه الروح في ألف كلمة؟
وكيف أختصر وجعًا، نضجًا، تأملًا، في سطرين، فقط لأن الخوارزمية لا تحب الروابط؟

كل شيء في هذا العصر يُقاس بسرعة الاستهلاك:
الخبر، الصورة، الضحكة، وحتى الألم.
الناس يريدون كل شيء الآن، سريعًا، مُصممًا للحظات.
لكن أنا لست كذلك.
أنا أكتب ببطء، وأشعر بعمق، وأنتظر بصبر.
أعرف أن ما أكتبه ليس للجميع، بل لأولئك الذين يعرفون طعم الحرف حين يُكتَب بصدق.

لكن كم عددهم؟
وإن قلّوا، هل يعني أنني أكتب للفراغ؟
وهل الفراغ أرحم من التفاعل المزيف؟
ربما، وربما لا.

مرة، كتب لي أحدهم تعليقًا جعلني أتوقف عنده:
قال لي: "أشعر أن كل حرف كتبته كانه يُقال لي أنا بالضبط".
هذه الجملة، وحدها، كانت كفيلة بأن تُعيد لي روحي.
كأنني وجدت صدىً في قلبٍ بعيد.
كأنني لست وحدي.

ربما نحتاج فقط إلى هذا:
أن نعرف أن أحدًا ما، في زاوية ما، يشعر بنا.
حتى لو لم يُعلق، حتى لو لم يُشارك.
يكفيني أن يكون قد قرأ، وابتسم، أو تنهد، أو بكى في صمت.

أعود في كل مرة لأكتب.
أضع الرابط، رغم الخذلان، رغم الصمت، رغم التكرار.
ليس لأني أنتظر التفاعل، بل لأنني أحترم كلمتي.
الكلمة التي خرجت مني لا أستطيع أن أُهينها بكتمها.
لا أريد أن أنسى لماذا بدأت أكتب في الأصل.

لست كاتبًا محترفًا، ولا أبحث عن شهرة.
لكنني صاحب وجع، وصاحب حلم، وصاحب مشاعر لا تحتمل أن تُكتم.
وأنا أعلم أن الكتابة لا تُطعم خبزًا، لكنها تُطعم القلب حياة.
وأن الحرف الحقيقي يُكتب ولو لم يسمعه أحد.
فهو لا يُكتب للناس فقط، بل يُكتب لي أنا، ولروحي، ولمن يشبهونني.

أُدرك الآن أن ما أفعله، هو بوح في زمن الصمت.
رسائل أُلقي بها في البحر، على أمل أن يلتقطها أحدهم.
وإن لم يلتقطها أحد، فلعلها تنجيني من الغرق.
فلعل الكتابة، وحدها، هي طوق النجاة.
وإن كانت الكلمات لا تصل كما أريد، فهي على الأقل تُخرج ما في داخلي، وتُنقذني من أن أختنق.

وحتى لو ظلت مقالاتي بلا قراء، سأكتب.
وحتى لو أغلق الجميع أعينهم، سأكتب.
وحتى لو صار التفاعل صفرًا، سأكتب.
لأن الحرف هو طريقتي للوجود.
والبوح، هو طريقتي للنجاة.
google-playkhamsatmostaqltradent