في عالمٍ يتسارع فيه كل شيء، ويختلط فيه الصخب بالحكمة، والتكرار بالدهشة، يظهر لنا مشهدان رقميان متناقضان بعمق: فيسبوك وكورا. مشهدان ينتميان إلى عالم "التواصل الاجتماعي"، لكنهما يختلفان في كل شيء تقريبًا: في الطريقة التي يُعرض بها الكلام، وفي نوعية الأفكار التي تُطرح، وحتى في طبيعة الناس الذين يكتبون أو يقرأون. مشهدان يمثلان جانبين منّا نحن أنفسنا: رغبتنا في الاندماج، وحنيننا للاختلاف.
فيسبوك: سوق التشابه المزدحم
تدخل فيسبوك، فتجد نفسك كما لو أنك في سوق كبير مفتوح، الكل يصرخ، الكل يعرض، الكل يريد الانتباه، والكل يشبه بعضه. منشورات تتكرر بنفس الصيغة وبنفس الأسلوب، كأنك تراها منذ سنوات، ولكنها تعود بأسماء مختلفة.
منشور بسيط يطلب منك أن تثبت حبك لأمك بلايك وشير. منشور آخر يُظهر صورة غريبة أو موقفًا ساخرًا، والناس تنهال عليه بتعليقات تشبه بعضها: "جامدة"، "ضحكت من قلبي"، "أنا كده برضو"، وكأن الضحك صار لغة جماعية تُستعمل حسب الجدول اليومي.
ثم تجد من يحكي عن طهي الملوخية بدون شربة، في بث مباشر، وكأن الطبخ أصبح عرضًا جماهيريًا يستحق المتابعة. تتكاثر القصص التي لا تحمل أي عمق، فقط تتناسل مثل نكت محفوظة ومواقف ممجوجة.
حتى عندما يظهر منشور مختلف، مثل ملخص كتاب، أو تأمل شخصي رصين، تجده محاصرًا بعناوين مثل: "5 وصفات للدايت تحرق الدهون من غير رياضة"، أو "شاهد ماذا فعل هذا الأب في فرح ابنته".
الندرة لا تملك صوتًا في سوق الضجيج. كل شيء هناك يُقاس بردود الفعل السريعة. اللايك، الشير، القلب، التعليق: كلها عملات تُدفع فورًا، دون تأمل.
كورا: فوضى الاختلاف العجيبة
تنتقل إلى كورا، فتشعر كأنك دخلت قاعة نقاش مليئة بالعقول المتحمّسة، البعض يلبس بدلة، والبعض حافي القدمين ويتأمل في السقف. لا قواعد واضحة، ولا نغم متناسق، لكن ثمة محاولات للفهم. أسئلة تُطرح، أغلبها لا يُنتظر لها إجابة نهائية، بل مجرد محاولة للفهم، أو ربما لإثارة مزيد من الأسئلة.
شخص يسأل: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يشعر؟ فتنهال عليه الردود: بعضهم يناقش الأمر من منظور فلسفي، وآخر يتكلم عن كائنات خيالية، وثالث يحكي عن تجربته مع روبوت منزلي صار أقرب له من ابنه!
ثم يأتي من يتأمل في علاقة المطر بالحنين، فتنهال الردود من كل حدب وصوب: ذكريات، أبحاث علمية، أشعار، تأملات وجودية.
ولكن كما في أي مساحة مفتوحة، هناك أيضًا زوايا عبثية. شخص يسأل عن دور الكائنات الفضائية في بناء الأهرامات، فتبدأ حفلة من الردود تتراوح بين السخرية الحادة والتصديق الغريب، وينتهي النقاش عادة بمعلّق يشتم الجميع ويغادر.
فيسبوك يكافئ التشابه، وكورا يكافئ الاختلاف
ربما يكمن الفرق الجوهري بين المنصتين في هذا المفهوم البسيط: المكافأة.
فيسبوك يكافئ رد الفعل السريع، ويشجّع النشر اللحظي، والمحتوى السهل. كأنك في مهرجان شعبي، فيه زينة وأضواء، والناس يرقصون ويضحكون، لكن لا أحد يسمع كلمات الأغاني، ولا أحد يتذكر ماذا قيل بعد خمس دقائق.
أما كورا، فيكافئ الطرح المختلف، حتى وإن كان مربكًا. كأنك في ندوة علمية مفتوحة، فيها باحثون حقيقيون، وبينهم شخص غريب الأطوار يحكي تجربته مع التأمل في البلكونة بعد أزمة منتصف العمر.
كلاهما يحتوي على عبث وجمال. الضجيج في فيسبوك مُرهق لكنه مألوف. والفوضى في كورا مُربكة لكنها محفّزة.
أمثلة تعكس الفرق: النجاح والنوم
لنأخذ مثالين شائعين:
الأول: النجاح.
في فيسبوك، النجاح يُعرض عبر منشور بسيط: "قولوا ما شاء الله، بنتي جابت ٩٨٪ وربنا كرمنا بعلبة شيكولاتة". الجميع يعلّق، الجميع يبارك، الكل يتفاعل، وتنتهي القصة.
أما في كورا، فتُطرح الأسئلة من نوع: "هل النجاح الأكاديمي شرط لتحقيق الذات؟" لتنهال الردود من خبراء، وأصحاب تجارب، ومتمرّدين على النظام التقليدي.
الثاني: النوم.
في فيسبوك، ترى صورة كرتونية تقول: "نمت ٤ ساعات وصحيت كأني اتضربت بشومة 😂". الضحك مضمون، والتفاعل جاهز، والكل يشارك.
أما في كورا، تُطرح الأسئلة: "ما تأثير النوم المتقطع على الذاكرة طويلة المدى؟"، لتبدأ رحلة عبر علم الأعصاب، وتنتهي بتجربة شخصية من شخص ينام في الظهر لأنه لا يثق في نوم الليل.
الخلاصة: كلاهما مرآة لوجهٍ فينا
ربما لا يهم كثيرًا إن كان فيسبوك أو كورا "أفضل"، فالمقارنة بينهما تشبه المقارنة بين نادٍ اجتماعي كبير وحديقة عامة مفتوحة للنقاش. كلاهما له جمهوره، وله لحظته.
فيسبوك مناسب إن أردت راحة ذهنية سريعة، ترفيهًا لحظيًا، ومشاركة خفيفة. لكن احذر من الوقوع في دوامة اللاشيء، حيث تمر الساعة وكأنك لم تفعل شيئًا.
أما كورا، فهو مساحة للفوضى المعرفية، تساؤلات بلا نهاية، وتشعبات فكرية قد تكون مرهقة، لكنها ممتعة لمن يحب الغرق في العمق.
الدرس الأهم: لا تبتلعك الأدوات
الإنترنت ليس شريرًا ولا طيبًا. المنصات أدوات، تمامًا كالقلم، يمكنك أن تكتب به رسالة حب أو تهديد، حسب ما بداخلك.
من الذكاء أن تُحسن استخدام الأدوات. لا أن تتركها تسحبك من الداخل حتى تنسى نفسك.
فيسبوك علّمنا أن نشارك كل لحظة كما لو كنا نعيش على خشبة المسرح. وكورا جعلنا نتساءل عن كل شيء، كما لو أننا نُعد لرسالة دكتوراه.
لكن الحقيقة أن الحياة ليست منشورًا ولا إجابة، ليست ستوري ولا تعليقًا مثبتًا.
الحياة تُعاش. فقط تُعاش.
ولعل أجمل ما نفعله هو أن نمر بين المنصتين، كما نمر بين مقهى صاخب ومكتبة هادئة. نضحك في الأول، ونتأمل في الثاني، ونعود إلى أنفسنا حين نُغلق الجهاز.
نحن لسنا ما نكتبه هناك فقط. نحن ما نحيا به هنا.
نحن بين ضجيج التشابه... وضوضاء الاختلاف... نبحث عن صوتنا نحن.