recent
أخبار ساخنة

محرك بحث جوجل (Google search)

لست بخير، لكنني لا أخبر أحدًا

Mahmoud
الصفحة الرئيسية
شاب كرتوني بملامح حزينة، يجلس محتضنًا ركبتيه في جو يغلب عليه اللون البنفسجي والأزرق، ودموعه تنساب على وجهه بصمت، في خلفية حالمة تعبّر عن الوحدة والوجع الداخلي.

لست بخير، لا لأنني أريد لفت الانتباه، ولا لأنني أحب الحزن أو أبحث عنه، بل لأن هناك شيئًا في داخلي بات يُنهكني كل يوم أكثر من الذي قبله. أفكر كثيرًا، وسرحتُ حتى ضاعت مني الأيام، عيناي ذبلت، وقلبي تألم بصمت، لا يراه أحد. أبتسم كثيرًا، وأتحدث بنبرة واثقة، أضحك أحيانًا، وأوافق على كل شيء، لكن الحقيقة أنني لست بخير، وأن هذا القناع الذي أرتديه صار يضغط على ملامحي أكثر من اللازم.

التناقض هذا يقتلني. أن أبدو طبيعيًا بينما داخلي يشتعل. أن أقول "لا شيء" بينما في صدري كل شيء. أن أهرب إلى النوم كلما اشتد الألم، ليس حبًا في النوم، بل هروبًا من الواقع. أن أستيقظ متعبًا كما نمت، لأن كل الأحلام كانت امتدادًا لهذا التعب. أتظاهر بأنني بخير حتى لا يزعجني أحد، وحتى لا أكون عبئًا على أحد، وحتى لا يسألني أحد.

المشكلة ليست في الحزن فقط، بل في وحدتي معه. في أنني كلما أردت الحديث، شعرت أن الكلمات لا تكفي، أن لا أحد سيفهم. فأسكت، وأبتلع كل شيء. أشعر وكأن في داخلي غرفة مغلقة، مليئة بالأصوات، بالأفكار، بالصراخ، ولا أحد يسمع. أحيانا أختنق من هذا السكون، وأحيانا أتمنى أن ينهار كل شيء فجأة لأرتاح، حتى البكاء لم يعد مجديًا، لم يعد يخفف عني كما كان يفعل، بات أشبه بعادة ميّتة لا تقدم ولا تؤخر.

ليست هذه أول مرة أحزن فيها، لكنّها كانت المرة الأولى التي شعرت فيها بانكسار داخلي لا أستطيع ترميمه. شعرت أن هناك شيئًا في قلبي انكسر بصوت لم يسمعه أحد، وترك أثرًا لا يُشفى. ربما لأنني كنت أظن أنني أقوى، أنني أستطيع تحمل كل شيء. كنت أقول دائمًا "سيمرّ"، وكنت أصدّق ذلك فعلًا. لكنني هذه المرة شعرت أنه لن يمر، أو أنه مرّ وهو يسحب مني أجزاء كثيرة، ولم يترك مني شيئًا كما كنت.

أردت أن أخبركِ عن البرد الذي جاء مبكرًا هذا العام، وعن الحزن الذي يهاجمني فجأة بلا موعد، عن تلك الرغبة الملحّة في البكاء والتي تصاحبني طوال الوقت. أردت أن أحدثكِ عن ألم معدتي المستمر، عن ثقل الأيام، عن الوحدة، عن تلك اللحظات التي أبتسم فيها في وجه الناس بينما أنزف داخليًا، عن ذلك الشعور الذي يشبه الموت البطيء. لكني لم أفعل. لا لأنني لا أريدكِ، بل لأنني لا أريد أن أثقل عليكِ، لا أريدكِ أن تريني ضعيفًا، مكسورًا، متهالكًا.

أحيانًا أشعر أن الحياة تعاقبني بشيء لا أفهمه. كأنني أدفع ثمن ذنب لم أرتكبه. أعيش أيامًا لا لون لها، ولا طعم، أكرر كل شيء بذات الرتابة، كأنني آلة لا تعترض. أشتاق لأشياء كثيرة، لأشخاص، لأماكن، لأحاديث بسيطة كانت تملأني بالحياة. أشتاق حتى لنفسي التي كنتها، التي كانت تضحك من قلبها، وتؤمن أن الغد أجمل. الآن لا أملك شيئًا من ذلك. أصبحت أعيش لأمرّ الوقت، لا لأستمتع به.

كل شيء صار متعبًا. حتى التفاصيل الصغيرة التي كانت تسعدني لم تعد كافية. الأغاني التي كانت تبكيني لم تعد تلمسني، الكلمات التي كنت أكتبها فقدت بريقها. وكأنني فقدت ذاتي في طريق طويل، ولم أعد أعرف كيف أعود. يمرّ يوم، ثم يليه آخر، وأنا في مكاني، لا أتحرك، لا أتغير، فقط أحاول ألا أنهار تمامًا.

أصعب ما في الأمر أنني لم أتعافى بعد. كل شيء ما زال كما هو. ما زلت أفتقدكِ، وما زال الحنين يحاصرني، يكسرني كل ليلة، يوقظني على صوتكِ، على صورتكِ، على لحظة وداع ما كان لها أن تحدث. أحيانًا أُقنع نفسي أن النسيان قادم، وأنني سأكون بخير، لكنني أكذب. أعرف أنني أكذب، لأنني لم أنساكِ يومًا. كل شيء يذكّرني بكِ، حتى صمتي.

نظرة واحدة كفيلة بأن تسحبني إلى كل الذكريات دفعة واحدة. كلمة واحدة قادرة أن تهدّني من الداخل. الناس لا يرون هذا، يظنون أنني تجاوزت، أنني أصبحت أفضل. لكنني كل يوم أستعيد نفس الوجع، بنفس الحدّة، وكأن شيئًا لم يتغير. وكأن الفقد يأخذ شكلاً جديدًا كل مرة، لكنه يحتفظ بنفس الألم.

أكتب الآن لأنني لا أجد من يسمعني. لأن الصمت بدأ يأكلني. لأنني لم أعد أحتمل أن أكون قويًا طوال الوقت. لأنني بشر، أتعب، وأنهار، وأحتاج أحيانًا من يربت على قلبي فقط. لا أريد نصائح، ولا حلول، أريد فقط من يفهم أنني لست بخير، دون أن يُحمّلني ذنب ذلك.

لم أعد أريد شيئًا من هذه الحياة، سوى راحة. راحة طويلة، حقيقية، تُغلق كل هذه الأبواب المفتوحة داخلي. راحة تجعلني أنام ليلًا دون أفكار، دون قلق، دون دموع. راحة تُشعرني أنني لست وحدي، أن هناك من يفهمني، من يرى ألمي دون أن أتكلم. راحة تُعيدني إلى نفسي، أو تأخذني منها نهائيًا، لا فرق.

يقولون إن الوقت يشفي كل شيء، لكنهم لا يخبرونك كم من الوقت تحتاج، ولا كم ستخسر حتى تصل إلى ذلك الشفاء المزعوم. يقولون إن كل شيء سيمر، لكنهم لا يخبرونك أن البعض ينهار قبل أن يمرّ شيء. أنا لا أريد أن أنهار، لكنني أشعر أنني على الحافة. أنني لا أحتاج سوى دفعة صغيرة، ليسقط كل ما كنت أحمله، وأتهشم تمامًا.

أتظاهر بالقوة، لأنني لا أملك خيارًا. الناس لا يحبون الضعفاء، لا يرحمونهم، يتحدثون عنهم كأنهم عبء. لذا أُخفي كل شيء، وأظهر كما يريدون. أكون القوي، المبتسم، المتماسك، بينما في داخلي كل شيء يتآكل.

أشتاق لصوتكِ، لوجودكِ، لتفاصيلكِ التي كانت تحميني من نفسي. لا أطلب رجوعكِ، لكنني فقط أفتقدكِ. وهذا الفقد بات يشبه العطش، لا يُروى مهما حاولت. أكتب الآن وأنا أعرف أن هذه الكلمات لن تُغير شيئًا، لكنها على الأقل تتركني أتنفس.

ربما لن تقرأي هذه الكلمات، وربما لن تعرفي يومًا كم كنت أحتاجكِ في تلك اللحظات. لكنني كتبتها، لأني لا أملك سواها. كتبتها لأقول إنني لست بخير، وإنني تعبت، وإن قلبي يؤلمني، وإن الحنين يقتلني، وإنني لم أتعافى بعد، وأتمنى أن أتعافى قريبًا.
google-playkhamsatmostaqltradent