في غرفتي الصغيرة، كأنني أعيش في ركنٍ ناءٍ من هذا العالم الصاخب، أبحث عن شيءٍ يشبه السلام. ليست غرفتي مجرد أربعة جدران، بل هي ملاذي الآمن، المساحة الوحيدة التي لا يُطلب مني فيها أن أضع قناعًا أو أُجيد تمثيل دورٍ لا يشبهني. بعيدًا عن الضوضاء، بعيدًا عن نظرات لا تفهم، وأيادٍ تُصافح لتخفي نواياها. هنا، وحدي، حيث أستطيع أن أكون أنا، دون رتوش، دون محاولات يائسة للتماسك.
أعرف تمامًا أنني وحيد. لا أقولها شفقةً على نفسي، بل كمن يعترف بحقيقةٍ اعتاد مذاقها. كلمة "وحيد" لا تعني لي ما تعنيه لغيري، إنها تنمو داخلي، تتمدد في أطرافي، تتسلل إلى صدري، وتملؤه حتى آخر نفس. أصبحت الوحدة جزءًا من كياني، تشعّ مني كما يشعّ الضوء من فانوسٍ قديم، خافت لكنه حاضر.
أعيش كأنني محجوز في جوف الظلام، لا أرى مخرجًا، ولا أطلب حتى من أحد أن يرشدني إلى النور. كل يوم يمر يجرّ معه قدميّ كأنهما مكبلتان بسلاسل من الحزن والخواء. فقدت أشياء كثيرة على هذا الطريق: فقدت الإيمان الذي كان يمدني بالقوة، فقدت الإلهام الذي كان يزرع في قلبي بذور الأمل، فقدت حتى دموعي… ذلك السلاح الصامت الذي كنت ألوّح به حين يعجز لساني عن التعبير.
أحيانًا يبدو كل شيء مؤلمًا لدرجة لا تُحتمل. كأن أحدهم قطع روحي بسكين بارد. أحس أنني أقترب من نهاية لا أفهمها… أبلغ الثلاثين أو الأربعين، لا يهم. المهم أنني أشعر وكأن شيئًا مني يتساقط يومًا بعد يوم. لا أحد يُخبرنا أن الغروب يبدأ قبل أن ننتبه له، وأننا، مع مرور الوقت، نصبح أكثر خفة مما ينبغي، لأننا نفقد أجزاءنا تباعًا.
أنام كل ليلة على أمل أن تهدأ الحروب التي تشنها روحي ضدي. أستجدي النوم كي يُسكت صراخي الداخلي، ولكنني أستيقظ مع طلقاتٍ جديدة، كأنني لم أنم. صرت أرتدي تعبي كأنه معطف لا يُمكن خلعه، وأحمل قلبي كجريحٍ لا يملك حتى رفاهية الشكوى.
لم أتخيل يومًا أن تصبح الرغبة في الهروب عادة. كنت أظن أنني أقوى من أن أهرب من شيء. لكنني صرت ماهرًا في التظاهر، بارعًا في إخفاء حزني. يا لها من مفارقة! أن تكون قدرتك على إخفاء حزنك، هي ما يُحزنك؟ أن تبتسم بثقة وأنت تتآكل من الداخل، أن تقول "أنا بخير" بينما تنهار داخليًا بصمتٍ نبيل!
يحزنني أنني لا أستطيع ترتيب علاقاتي بالطريقة التي أريدها. صعبٌ أن تُحب أشخاصًا رائعين، ثم تبتعد عنهم فقط لأنك لا تملك القدرة على الحفاظ عليهم. كأنك تملك قلبًا مُحبًا، ولكنك لا تملك اليد التي تُمسك بهؤلاء الذين تُحبهم. فتُضطر إلى تركهم، لا لأنك لا تُريدهم، بل لأنك لا تقدر.
قلبي مُتعب، لكنه لا يبوح كثيرًا. لا يُجيد العويل، بل يئنّ في هدوء. جُبر ذات مرة، ثم كُسر مرات، واليوم أراه مُبعثرًا كزجاجٍ تهشّم تحت ثقل الخيبة. أُصلي أن يجبر الله كسري، لكنني لا أنسى أن أدعو أيضًا أن يذوق من كسرني ذات الوجع، لعله يفهم. لعله يشعر ولو للحظةٍ، بما لم أنجح في وصفه.
كل شيء حولي أصبح باهتًا. الألوان فقدت بهجتها، الأماكن فقدت دفئها، والأشخاص… أصبحوا غرباء، حتى أقربهم. لا شيء يؤنس وحدتي سوى صوتي الداخلي، ذلك الصوت الذي كثيرًا ما تحوّل إلى عدو، يُعاتبني، يُحاكم قلبي، يحمّلني ذنب اختيارات لم أكن حرًّا فيها.
أتمنى أحيانًا لو أنني أستطيع الخروج من جسدي، أن أنظر إليّ من الخارج، لأرى ما يراه الناس. هل أبدو قويًا كما أُحاول؟ أم أن حزني واضح كالشمس؟ هل يصدقون ابتسامتي؟ أم أنهم يتغاضون عنها مجاملةً؟ لا أعلم، ولا أُريد أن أعلم. صار التظاهر بالجهل أكثر راحة من البحث عن حقيقةٍ تُرهقني.
كنت أظن أني حين أكبر سأفهم كل شيء. لكنني كبرت، ولم أجد شيئًا يستحق الفهم. كلما حاولت أن أمسك بطرف خيط الحياة، وجدتني أتورّط في شبكةٍ أضيق. الحياة لا تعلّمنا، بل تُرهقنا. لا تُهدينا، بل تُفقدنا. تُربكنا بأسئلتها، ولا تمنحنا وقتًا كافيًا لنبحث عن الإجابات.
في كل مرة أحاول فيها أن أبدأ من جديد، أُدرك أني لا أملك جديدًا أبدأ منه. كل شيء مستهلك: القلب، الصبر، الحلم، وحتى الكلمات. كتبت كثيرًا، كتبت حتى ذابت كلماتي، ولم يبقَ منها إلا هذا الحبر الخافت الذي أستعين به الآن لأبوح، لا لأشتكي، بل فقط لأشعر أنني موجود.
الحنين أصبح لعنة. أحنّ إلى أشخاص لم يعودوا موجودين، إلى لحظاتٍ انتهت، إلى نسخٍ قديمة من نفسي لا أستطيع استرجاعها. أعيش بين ما كان، وما لن يكون، ولا أعلم أين أنا الآن. غائب حاضر، أو ربما حاضر لا يُرى.
أحيانًا أغار من أولئك الذين يستطيعون البكاء بسهولة. لا لشيء، فقط لأنهم يستطيعون إخراج ما يعصف بداخلهم. أما أنا، فقد جفّت الدموع في داخلي، وكأن حزني اختنق دون أن يُولد صوته.
كم مرة تمنيت أن يُربّت أحدهم على كتفي دون أن أطلب؟ أن يقول لي ببساطة: "أنا هنا، لا تقلق." لكن الوحدة تُعلّمنا ألا نتوقع شيئًا. تُدرّبنا على الصمت، وعلى الاكتفاء بأنفسنا مهما تآكلنا.
وفي زحام الأيام، أصبحت أكثر ميلًا للانعزال. لا أهرب من العالم، بل أهرب من نفسي حين تكون مع العالم. أصبحت لا أحتمل الجلسات الطويلة، ولا الأحاديث الفارغة، ولا المجاملات التي تُغرقني في شعورٍ بالكذب. كلما حاولت أن أكون كما يريدون، شعرت أنني أخون نفسي.
وها أنا الآن، أكتب دون هدف، فقط لأفرغ شيئًا من هذا الثقل. لا أنتظر من أحد أن يفهمني، ولا أبحث عن حلّ. أكتب لأن البوح أحيانًا، هو الوسيلة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة. وسيلة تحميني من الانهيار التام، وتُعطيني ذرة وهم بأنني لا زلت قادرًا على التنفّس، ولو تحت الماء.
الحياة ليست دائمًا عادلة، أعرف ذلك، لكنني تمنيت لو كانت أرحم. لو منحتنا فرصةً لنلتقط أنفاسنا بين صفعةٍ وأخرى. تمنيت لو كانت القلوب تتواصل بطريقةٍ أبسط، بلا خوف، بلا شروط، بلا خسائر.
في نهاية هذا البوح، لا أعدكم بشيء. لا أقول إنني بخير، ولا أزعم أنني تعافيت. أنا فقط هنا، أكتب. وإن كان هذا كل ما أستطيع فعله الآن، فهو كافٍ. كافٍ لأنقذ ما تبقى منّي.