لم يرهقه شيء كما فعلت أفكاره، كان يملك عقلاً لا يكُف عن تفسير الأشياء، وكأن كل تفصيل صغير لا بد أن يُفهم، كل نظرة، كل كلمة، كل سكوت، كل تصرف من الآخرين كان بمثابة لغز يجب أن يُفك. لم يكن الأمر بيده، كان يسير في الحياة وعقله يركض في الاتجاه المعاكس، يُحلل، يُعيد التفكير، يراجع الحوارات التي مضت، يقرأ ما بين السطور، ويتخيل ما لم يُقال.
لم يكن مرتاحًا، ولم يعرف يومًا طعم السكون. كان إذا ضحك، تساءل بعد لحظة: هل يضحك حقًا؟ وإذا حزن، بدأ يبحث عن الجذور الأولى للحزن، متى بدأ؟ ومن المسؤول؟ ولماذا يتكرر؟ لم يكن يعرف أن بعض المشاعر يجب أن تُعاش كما هي، لا أن تُحلل. لكن عقله لم يعرف الفرق بين الألم والتأمل.
كان يتعب من نفسه أكثر مما يتعبه الناس. يسهر طويلًا يفكر في جملة عابرة سمعها من صديق، أو في نظرة غريبة لمحها في وجه شخص يعرفه بالكاد. لماذا قالها؟ لماذا نظر إليّ هكذا؟ ماذا كان يقصد؟ وهل أنا من فهم خطأ؟ ثم تبدأ سلسلة لا نهائية من الاحتمالات، كل احتمال يجر خلفه ألمًا جديدًا.
لم يكن مجنونًا، لكنه كان مُجهَدًا. كأن روحه محاصرة في صندوق أفكاره، لا تنام ولا ترتاح. لا أحد يعرف كم من الليالي مرّت عليه وهو ينظر إلى السقف كأنّه يحاور شيئًا لا يُرى، يصارع ذهنه، يفاوضه أن يهدأ، أن يصمت قليلًا، أن يترك له لحظة يتنفس فيها دون ضجيج داخلي.
لم يكن يفهم كيف ينام الناس دون أن يُراجعوا كل ما حدث في يومهم. كيف يقدرون على التسليم؟ كيف يستطيعون أن يتجاهلوا الأسئلة المعلّقة في رؤوسهم؟ أما هو فكل سؤال لم يُجب عليه يتحول إلى وجع. كل صمت من شخص قريب يتحول إلى حكاية طويلة، ينسجها خياله بخيوط من الاحتمالات، وكل احتمال يُثقل قلبه أكثر.
كان يتمنى أحيانًا لو يملك "زر إيقاف"، كباقي الأجهزة. زر صغير يضغطه فيتوقف عقله عن التحليل، عن الغوص، عن إعادة السيناريوهات آلاف المرات. لكن لا شيء يتوقف. حتى في نومه، كان يرى كوابيس من نفس الأفكار التي أرهقته وهو مستيقظ. وكأن العقل وجد طريقًا آخر ليُكمل عمله وهو نائم.
كان يعيش داخل رأسه أكثر مما يعيش في العالم. حتى إن جلس في مجلس، فهو حاضر بجسده فقط، أما روحه فهي في مكان آخر، تبحث في ذكريات قديمة، أو تحلل ما قد يحدث في المستقبل. لا يعيش اللحظة أبدًا، بل يسبقها بخطوتين، أو يتأخر عنها بخطوة. كان كمن يحمل مرآتين على كتفيه، واحدة لما مضى، وأخرى لما قد يأتي، ولا يرى الطريق أمامه.
تعب من هذه الحياة المُعقّدة التي يعيشها داخله. حياته من الخارج عادية، بل قد يحسده الناس على هدوئه، على تفكيره، على منطقه في الكلام. لا أحد يدري أن وراء هذا الهدوء إعصار لا يُرى، أن هذا التوازن الظاهري هو نتيجة قتال طويل مع نفسه.
مرّت عليه لحظات ظنّ فيها أنه يجن، أن هذا الصراع الداخلي لا يمكن أن يكون طبيعيًا. لكن حين حاول أن يشرح ذلك لأحد، لم يجد الكلمات. ماذا يقول؟ "أنا أفكر كثيرًا؟" سيضحكون. سيقولون له: "كلنا نفكر". لكنه يعرف، هناك فرق بين من يفكر، وبين من يعيش عبدًا لأفكاره.
لقد أدرك مبكرًا أن التفكير الزائد لعنة، أنه ليس دليلًا على الذكاء دائمًا، بل قد يكون داءً يصعب الشفاء منه. وكان يعرف أن جزءًا من ألمه هو اختراعه الخاص، أن لا أحد جعله يُعاني كما جعل هو نفسه تعاني. لكنه لم يكن يملك أدوات التوقف.
كان يحب أن يفهم. وهذه الرغبة البسيطة في الفهم تحولت مع الوقت إلى هوس. لا يُصدّق الأشياء كما تظهر، يبحث دومًا عن ما خلف الكلمات، عن النوايا الخفية، عن الطبقات العميقة. لم يكن يعرف أن بعض الأشياء لا معنى لها، وأن بعض البشر يفعلون أشياء بلا سبب.
كان يُتعب من يحبهم. ليس لأنه سيء، بل لأنه يحتاج طمأنة دائمة، يحتاج تفسيرًا مستمرًا، يحتاج من يقول له: "أنا معك، لا تخف، لا تُحلل، لا تبحث، لا تُرهق نفسك". لكن قلّ من يفهم هذا الاحتياج، وقلّ من يتحمل أن يعيش مع عقل لا يتوقف.
ولأنه كذلك، كان يحب بصمت، ويتألم بصمت، وينسحب بصمت. لم يكن يشرح كثيرًا، لأنه يعلم أن ما يُتعبه لا يُفهَم بسهولة. فاختار الانعزال أحيانًا على أن يشرح. كان صمته أرحم له من محاولة الكلام.
الذين يشبهونه قلائل. هم أولئك الذين لا يهدأ لهم بال، والذين يُظهرون تماسكًا خارجيًا رائعًا بينما هم في الداخل يتفتتون. أولئك الذين ينهكون أنفسهم بحثًا عن المعنى، حتى حين لا يكون هناك معنى.
وكان أكثر ما يُتعبه أنه لا يعرف كيف يُطفئ هذا العقل. كان يتمنى لو يستطيع أن يعيشه ببساطة، أن يأخذ الأمور كما هي، أن يصدّق الكلام دون تحليل، أن يمشي في الطريق دون أن يفكر إلى أين سيصل، لكنه لا يقدر.
وفي لحظات كثيرة، كان ينظر في المرآة ويقول لنفسه: "اهدأ، يكفيك، لا تفكر." ثم يضحك ساخرًا. فهو يعلم أن هذه الجملة مجرد خدعة، أن العقل لن يتوقف لأنه سمع أمرًا بذلك. العقل يحتاج إلى تدريب طويل، إلى صبر، إلى إعادة برمجة. وهو لم يكن يملك الطاقة لذلك.
كان يشعر في أعماقه أنه ضحية ذكاء زائد، أو ربما ضحية قلب هش يُغلفه عقل صلب. وهذا التناقض بين القلب والعقل كان ينهشه. القلب يريد أن يُحب بلا شروط، والعقل يُعيد كل شعور إلى طاولة التحليل والتشريح.
وحين يُحب، يحب بعمق. لكنه يخاف. يخاف من أن يُفهم خطأ، من أن يُرفض، من أن يُتَرك. عقله يصور له كل السيناريوهات الممكنة، وكلها مؤلمة. لذلك كان الحب بالنسبة له مغامرة خطيرة، لكنها ضرورية.
في مرة قال لصديق له: "أظن أنني لو استطعت التوقف عن التفكير، سأشفى." ضحك صديقه وقال: "وهل يمكن لعقلك أن يصمت؟ أنت خلقت لتفكر." لم تعجبه الإجابة. فهو لا يريد أن يخلَق لعقاب دائم. يريد أن يُخلق لطمأنينة، لراحة، لبساطة لا يعرفها.
وحين يكتب، كان يهدأ قليلاً. الكتابة بالنسبة له وسيلة لتنظيف رأسه من الفوضى، كأنه يفرغ ما بداخله على الورق حتى لا ينفجر. وكل كلمة يكتبها كانت تريحه قليلًا، حتى وإن كانت موجعة.
ولأن الكتابة صديقته الوحيدة، كان يكتب كما يتنفس. لا ينتظر جمهورًا، ولا يطلب إعجابًا. فقط يكتب كي يظل واقفًا، كي لا يسقط من ثقل الأفكار التي تسكنه.
أحيانًا كان يظن أن العالم لن يفهمه أبدًا. وأن الحياة أبسط من أن تحتوي أمثاله. لكنه، مع ذلك، كان يستمر. يستمر في التفكير، في الكتابة، في التأمل، وفي حب الحياة رغم كل تناقضاتها.
ربما لم يطلب الكثير. فقط كان يريد لحظة واحدة يُسكت فيها كل شيء بداخله، لحظة لا يسأل فيها شيئًا، ولا يفسر فيها شيئًا، لحظة يعيش فيها كما يفعل الناس البسطاء… فقط يعيش.