فكرة الهجرة أو السفر فكرة عظيمة، فقد كانت تلازمني منذ أن كنت طفلًا صغيرًا، حين كانت أحلامي لا تزال ناعمةً بسيطة، لم يمسها بعد واقع الحياة القاسي، الذي يفرض عليّ تحدياته المتلاحقة يومًا بعد يوم. لطالما تساءلتُ: هل السفر حقًا بوابةٌ نحو حياةٍ أفضل؟ وهل الهجرة فعلًا نجاةٌ من دوامةٍ لا تنتهي من التعب والقلق والضغوط؟
ربما تعلّمتُ مبكرًا أن للسفر سبع فوائد، كما كانوا يقولون، ولكنني اكتشفت لاحقًا أن فوائده تفوق ذلك بكثير، تتجاوز الحساب، وتتخطى الأرقام. السفر ليس مجرد انتقالٍ من مكانٍ إلى آخر، أو تبديل منظرٍ بآخر. بل هو حياةٌ جديدة تُكتب لك من أول سطر، تكتشف فيها ذاتك مرةً أخرى، وكأنك تقابل نفسك للمرة الأولى بعد غيابٍ طويل.
أحلمُ بالسفر لأنني أرغب أن أشاهد العالم كما لم أره من قبل، أن تتفتح عيناي على شوارع جديدة، ووجوه غريبة، وحكاياتٍ لا أعرفها. أريد أن أتذوق طعم الحياة بعيدًا عن نمط العيش الذي فرضه المكان والظروف والواقع المُرهِق. هناك حيث الشمس تشرق بشكلٍ آخر، والنجوم تضيء ليالي مختلفة، والأشجار والطرقات تناديني بأصواتٍ لم أعتَدها، في بلادٍ لم يسبق لي زيارتها، ولا أعرفها إلا من خلال صورٍ أو كلمات.
منذ سنواتٍ طويلة وأنا أنتظر فرصة السفر، فرصة الهروب من دائرة الضيق التي تلفّني بإحكام، وأحاول كسرها مرارًا وتكرارًا، لكن دون جدوى. كانت المحاولات كثيرة، إلا أن الظروف كانت أكثر إصرارًا مني في إغلاق الباب الذي أطرقُه. لكن شيئًا بداخلي ما زال يهمس لي: لا تيأس، فأحلام السفر لا تموت، حتى وإن تأجلت.
ربما يكون السبب في رغبة السفر القوية هو إحساسي بالغربة في مكاني الأصلي، غربة لا أفهمها، لكنها تجتاحني من حين لآخر، حتى وأنا وسط أهلي وأصدقائي وأقاربي. هناك شعورٌ عميقٌ بأنني لا أنتمي تمامًا لهذا المكان، وأن قلبي يبحث عن وطنٍ آخر، وطنٍ يختاره هو بإرادته، وليس وطنًا فرضته عليه الولادة أو الصدفة.
أحيانًا أتخيل نفسي في مطار، أجرُّ حقيبتي التي أعددتها على عجل، وقلبي يخفق بشدة، متوترًا كمن سيُولد من جديد بعد لحظات. أشعر بحنينٍ غامضٍ إلى لحظة الوصول إلى بلادٍ لا أعرف لغتها جيدًا، أستمع إلى أناسٍ يتحدثون بسرعةٍ ولهجةٍ غريبة، وأقف بينهم كطفلٍ صغيرٍ يحاول فهم ما يدور حوله للمرة الأولى. أريد هذا الشعور، شعور الخفة، شعور أنني غير مقيَّد بمكانٍ أو وظيفةٍ أو مسؤولية ثقيلة، مجرد إنسانٍ عاديّ يجرب حظه في الحياة من جديد.
تجذبني فكرة التعرّف على عادات وتقاليد الشعوب المختلفة، أحبُّ أن أتعلم كيف يعيش الآخرون، كيف يحتفلون ويغنون ويرقصون، كيف يحزنون ويعبّرون عن مشاعرهم، كيف يواجهون الحياة بكل تفاصيلها. أريد أن أرى ألوان ملابسهم، أسمع أصواتهم، أتناول من طعامهم، وأجالس كبارهم الذين يحملون حكاياتٍ عمرها سنواتٌ طويلة. هذه هي التجربة التي تثيرني وتدفعني لأن أستيقظ كل يوم وأقول لنفسي: لا تتوقف عن المحاولة، فالعالم ينتظرك في مكانٍ ما.
قد لا يكون السفر فقط بهدف الاستمتاع أو السياحة، بل ربما يكون ضرورةً ملحّة، حاجةً للخروج من ظروفٍ لا تطاق، وربما فرصةً لبدء حياةٍ جديدة تمامًا، حياة تحقق فيها أحلامك، وتجد فيها نفسك، وتستثمر فيها طاقاتك بشكل أفضل. فأحيانًا يكون المكان الذي وُلدنا فيه هو ذاته المكان الذي يقيدنا ويحد من قدرتنا على النمو والانطلاق والإبداع.
أعرف جيدًا أن الطريق إلى السفر ليس مفروشًا بالورد، بل هو تحدياتٌ كثيرةٌ، إجراءاتٌ مرهقةٌ، ووداعاتٌ ثقيلة، وحنينٌ قد يباغت القلب فجأةً حين تدير ظهرك وأنت تغادر. أعرف أن فكرة الرحيل مؤلمة، لكنها ضرورية أحيانًا، ومهما كانت قسوة لحظاتها الأولى، فإن ما بعدها قد يكون أكثر إشراقًا وإلهامًا.
أحلم بالهجرة لأنها ربما تكون الوسيلة التي تحقق لي الاستقرار الذي افتقدته طويلًا، والراحة النفسية التي لا أجدها هنا. ربما تكون فرصة عملٍ أفضل، أو دخلاً ماليًا أعلى، وربما يكون حلمًا ببساطة أن تعيش حرًا من ضغوطات حياتك المعتادة، حرًا من القيود النفسية والاجتماعية التي تراكمت عليك مع مرور السنين.
لكنني أيضًا أخشى من هذا الحلم أحيانًا، أخشى أن أفقد في السفر شيئًا من روحي، أو أن أتغير إلى الحد الذي لا أعرف فيه نفسي. أخشى أن تسرقني الغربة من أهلي، وأن أتحول إلى شخصٍ غريب، لا هو قادرٌ على الاندماج في وطنه الجديد، ولا هو قادرٌ على العودة إلى الوطن القديم.
أدرك جيدًا هذه المخاوف، وأعيش معها كل ليلةٍ وكل يوم، لكنني في الوقت نفسه أعرف أن الحياة مخاطرةٌ كبيرة، وأن من لا يجازف بشيء لن يكسب شيئًا على الإطلاق. هذه المجازفة، وإن كانت صعبة، إلا أنها تظلُّ بالنسبة لي حلمًا يستحق العناء والمحاولة مرة بعد أخرى.
في النهاية، ربما يتحقق الحلم قريبًا، وربما يتأخر قليلًا، لكن ما أثق به تمامًا هو أنني لن أتوقف عن المحاولة، وأنني في يومٍ ما سأقف في أرضٍ جديدة، أتنفس هواءً مختلفًا، وأبدأ قصتي من أول سطرٍ فيها، حيث لا يعرفني أحد، ولا يعرف شيئًا عن ماضيَّ، وحيث تكون الفرصة متاحةً أمامي لأعيد صياغة حياتي كما أريد وأتمنى.
فالهجرةُ ليست مجرد حلمٍ عابر، بل هي بوحٌ عميق، وصرخةُ روحٍ تبحث عن خلاصها بين البلدان، ولا تزال حتى اليوم تبحث وتنتظر الفرصة القادمة.