![]() |
على حافة الحياة.. حين تصبح مجرد متفرج |
أقف في مكاني هذا منذ زمنٍ بعيد، وأشعر أن الزمن مرّ بي أكثر مما مررتُ به. كنت دائمًا قريبًا بما يكفي لأرى، لكن بعيدًا بما يكفي كي لا أشارك. كل شيء حدث أمامي، كل شيء مرّ من هنا، إلا أنني لم أكن جزءًا منه، وكأنني مجرد متفرج على حياتي التي أعيشها، أو بالأحرى الحياة التي تمنّيت أن أعيشها.
لطالما كانت أكثر لحظات حياتي ألمًا تلك التي أرى فيها الأشياء التي أحبها تمر من أمامي دون أن ألمسها؛ كغريبٍ يقف خلف الزجاج يرى ضحكات الآخرين، لكنه لا يستطيع سماعها، يشعر بالدفء الذي بينهم لكنه عاجز عن مشاركتهم إياه. كل حلمٍ حلمته بقي مجرد حلم، ظل معلقًا في الفضاء الواسع، أراه كل ليلةٍ ولا أصل إليه.
في داخلي رغبةٌ ملحّة أن أعيش الحياة حقًا، أن أختبر ما يختبره الآخرون دون تفكير، أن أضحك من قلبي لا مجاملة، أن أبكي دون خوف من أن يلاحظ أحدٌ ضعفي. أردتُ أن أقترب من تفاصيل الحياة، تلك التفاصيل البسيطة التي يتجاهلها الكثيرون، كجلسةٍ مع صديق، أو حديثٍ عابر مع غريبٍ في مكانٍ ما، أو حتى أن أشعر بالأمان لمجرد وجودي وسط جمعٍ من الناس دون قلق.
مرّت بي سنوات وأنا أراقبُ فقط؛ أرى غيري يحقق ما لم أستطع حتى أن أجرؤ على تخيّله. في كل مرة كنت على وشك أن أتقدم خطوةً نحو شيءٍ أردته، كانت قدماي تتجمدان في مكانهما، وكأن هناك من يشدني للخلف ويهمس في أذني أنني لست جاهزًا بعد، أو ربما أنني لا أستحق أن أحصل على ما أريد. هكذا مضى بي الوقت وأنا أنتظر أن يمنحني أحدهم إذنًا بالعيش، إذنًا بأن أكون أنا دون خوفٍ أو تردد.
كلما رأيت ابتسامات الآخرين وحيويتهم وأنا أقف على مسافةٍ آمنة، شعرت بأن المسافات تتسع بيني وبين الحياة. أصبحتُ خبيرًا في مراقبة التفاصيل الصغيرة، في قراءة لغة الأجساد، وفي تخيل ما يشعر به الآخرون. ولعلي من كثرة المراقبة نسيت أن أعيش بنفسي تلك اللحظات التي أرى فيها الجمال، والأمل، والحب، بل حتى الحزن.
صرتُ خائفًا من البدايات الجديدة، من الأبواب المفتوحة التي تنتظرني لأعبرها. شيءٌ بداخلي أصبح يعتقد أنني خلقتُ فقط لأراقب الحياة وهي تحدث لغيري. ربما ظننت في لحظةٍ ما أن مراقبة الأشياء من بعيد تحميني من الخيبة، من الألم، من الندم، لكنني في النهاية اكتشفت أن ما كنتُ أهرب منه قد أصابني بالفعل، وأن الندم الذي حاولتُ تجنبه يلاحقني في كل مرة أدرك فيها كم من الوقت فات دون أن أعيش فعليًا.
من الصعب أن أشرح لأحد كيف يكون شعور من يعيش حياته كلها متفرجًا. كيف أفسّر تلك الغصة التي تملؤني عندما أرى الآخرين يمضون قُدمًا بينما أراوح في مكاني؟ كيف يمكن أن أوضح الشعور بالعجز أمام كل فرصة فاتت دون عودة؟ كل مرة كانت الحياة تُعرض فيها أمامي بوضوح، كانت فرصتي للانضمام إليها تتضاءل.
أحيانًا أسأل نفسي، هل الحياة التي حلمت بها كانت حقًا مستحيلة؟ أم أنني كنت أُقنع نفسي بذلك حتى أرتاح من عناء المحاولة؟ ربما كنتُ أخشى المواجهة، أخشى أن أرى الحقيقة في عيون الآخرين، أن أرى انعكاس ضعفي وهشاشتي في عيونهم، أن أفشل وأعود مرة أخرى للظل، لكن هذه المرة وأنا محطم تمامًا.
كبرتُ وأنا أردد في نفسي جملةً واحدة: "سأكون يومًا ما هناك في الداخل، في منتصف الحياة تمامًا". لكن الأيام مرت، وأنا ما زلت واقفًا في المكان ذاته. رأيتُ الأصدقاء يكبرون، والفرص تمر، والأيام تنساب بين يدي كالرمال الناعمة التي لا أستطيع الإمساك بها.
هل تأخرتُ كثيرًا؟ ربما. لكنني ما زلتُ هنا، ما زلت أحاول أن أخطو خطوةً واحدةً إلى الأمام. لا أريد أن أبقى عالقًا في هذه الدائرة المغلقة من الخوف والتردد، لا أريد أن أفقد بقية العمر وأنا أتساءل: "ماذا لو؟" وماذا لو لم أخف؟ ماذا لو جربت أن أعيش الحياة دون أن أنتظر موافقة الآخرين، دون أن أنتظر إشارات تؤكد لي أن الوقت قد حان؟
ربما لا يزال في داخلي شيءٌ من الحياة يستحق المحاولة، شيءٌ لم يمت بعد. ربما لم يفت الأوان تمامًا. لعلّ اللحظة القادمة تحمل لي شيئًا مختلفًا، شعورًا حقيقيًا بأنني موجود، بأنني لم أعد مجرد ظِل، بأن لي مكانًا على هذه الأرض، مكانًا لم أتخيل يومًا أنني قد أشغله.
أدرك الآن أكثر من أي وقتٍ مضى أن الوقوف بعيدًا لا يحميني من الألم، بل يزيده. أن أكون بعيدًا يعني أن الحياة تحدث دوني، وأن عمري يمضي دون أن يُسجل فيه شيء يخصني حقًا. أريدُ أن أكون جزءًا من الحكاية، جزءًا من الوجوه التي تمر بي، من الأحداث التي تلامس روحي، من الذكريات التي تُحفر في داخلي. أريد أن أتجاوز هذا الخوف الذي جعلني أعيش نصف حياة، نصف حلم، نصف حقيقة.
ما زلتُ أتمنى، ما زلتُ أحلم، وما زلتُ أشعر أن هناك شيئًا ما في انتظاري، شيئًا يجعلني أقول يومًا: "لقد كنت هناك، كنتُ حقًا جزءًا من هذه الحياة، ولم أعد مجرد عابرٍ يقف بعيدًا يحدّق في الأشياء وهي تفوته".