recent
أخبار ساخنة

محرك بحث جوجل (Google search)

خاصية البلوك.. حين تتحول المسافات إلى جدران

Mahmoud
الصفحة الرئيسية
رسم كرتوني يُظهر شابًا وفتاة واقفين متقابلين وبينهما هاتف ذكي كبير عليه رمز قفل، وتغلب على الصورة درجات اللونين البنفسجي والأزرق، ويبدو عليهما الحزن والبعد العاطفي.

ما زلت أتذكر يومها جيدًا، ذلك اليوم الذي قررتُ فيه أن أضغط على زر «البلوك» للمرة الأولى. كان شعوري غريبًا، بين ألم اللحظة وراحة القرار، بين رغبة التمسك وبين يقين الابتعاد. لم يكن «مارك» - حين اخترع هذه الخاصية - يعلم أنها ستصبح مع الوقت أخطر من مجرد حظر شخص مزعج أو متطفل، بل ستتحول إلى وسيلة لقطع العلاقات بشكل نهائي، علاقة حب كانت، أو صداقة، أو حتى قَرابة دم.

أحيانًا أشعر أن خاصية «البلوك» هذه، التي كانت مجرد وسيلة للحماية، أصبحت اليوم هي السلاح الأقوى لإنهاء العلاقات الإنسانية بضغطة زر. فكأنك بهذا الزر قد أقمت بينك وبين شخص آخر حاجزًا أسمنتيًا لا مجال فيه للنقاش أو العتاب، ولا حتى للذكريات الجميلة أو المحاولات الأخيرة للتمسك بشيء ما.

أذهب أحيانًا لأتفقد قائمة الحظر لدي، لأكتشف أن كل من في هذه القائمة كانوا في يومٍ ما أشخاصًا لهم في القلب مكانة كبيرة. هل يُعقل أن تصبح علاقتنا الإنسانية سهلة القطع إلى هذا الحد؟! أصبحت العلاقة كأنها ورقة، نكتب عليها سطورًا كثيرة من المواقف، وفجأة، دون سابق إنذار، نمزقها، ونلقي بها بعيدًا. هكذا تمامًا نحن نفعل، لكن الفرق أننا نمزق معها جزءًا منا.

كثيرة هي المرات التي أجد نفسي فيها أمام ذلك السؤال المؤلم: لماذا صارت خياراتنا محدودة بين "بلوك" أو بقاء بلا روح؟ ألهذه الدرجة بات التواصل الحقيقي ضعيفًا بيننا؟ أم أن نفوسنا هي التي أصبحت هشة جدًا لدرجة أنها لم تعد تحتمل أدنى خلاف أو سوء تفاهم؟

أتعجب كيف أصبحت قوائم الأصدقاء ممتلئة بأشخاصٍ لا نعرف عنهم سوى أسمائهم وصورهم، وربما بضع كلماتٍ عابرةٍ يكتبونها أحيانًا، دون أن تجمعنا بهم أي حكايات أو ذكريات. بينما الذين شاركونا يومًا تفاصيل الحياة، لحظات الفرح والحزن، الغضب والضحك، أصبحوا الآن مجرد أسماءٍ منسيةٍ في قائمةٍ أخرى تسمى «قائمة المحظورين».

ما أبشع ذلك الشعور عندما يرحل شخص عزيز من حياتك بضغطة زر! وكأن حياتنا باتت أسهل في إنهاء العلاقات أكثر من محاولة إصلاحها. هل جربتَ مرةً أن تذهب إلى تلك القائمة لتتأمل الأسماء التي فيها؟ هل فكرت كيف أصبح ذلك الشخص الذي كان وجوده أساسيًا في يومك مجرد اسمٍ ميتٍ لا حياة فيه؟ هو شعور مخيف حقًا، أن يتحول إنسان حي له مشاعر وذكريات معك، إلى مجرد اسم على قائمة محظورة لا تعني لك شيئًا سوى الإقصاء.

ولعل أكثر ما يؤلمني، هو أننا جميعًا في داخلنا نعرف أن البلوك ليس إلا حاجزًا إلكترونيًا فقط، لكنه يُشبه جدرانًا ضخمة عالية تصنعها قلوبنا أولاً، حتى قبل أن نضغط عليه. إنه انعكاس لحقيقة مُرة عن ضعف العلاقات التي ظنناها يومًا أبدية. إنه الدليل الأوضح على أن بعض العلاقات لم تكن عميقة كما كنا نظن، أو ربما كنا نتظاهر بأنها كذلك.

كم هو مؤسف أننا وصلنا إلى هذا الحال! كنا في الماضي نتقاسم الهموم، ونعيش تفاصيل أيامنا بحلوها ومُرِّها مع أشخاص ظننا أنهم باقون إلى الأبد، ولم يكن يدور في ذهننا قط أن هذا الصديق أو القريب أو الحبيب، سيتحول في يوم ما إلى مجرد اسم في قائمة «البلوك»، اسم غريب نمر عليه دون أي شعور، كأننا لم نضحك معه يومًا، أو لم نبكي بصدق في لحظات ضعفه وضعفنا.

إن تأملت جيدًا في تلك القوائم الغريبة، ستجد أن معظم المحظورين كانوا في يوم من الأيام أقرب إلينا من أنفسنا. كنا نحبهم حد الجنون، نحادثهم أكثر من أهلنا، نشاركهم تفاصيل حياتنا اليومية، آمالنا، أحلامنا الصغيرة والكبيرة، مخاوفنا، وكل شيء. واليوم، بكل بساطة، صاروا بلا وجود تقريبًا، كأنما انتهى دورهم في حكاياتنا فجأة دون سابق إنذار.

كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ متى أصبحت العلاقات هشة إلى هذه الدرجة، سهلة الكسر، قليلة الصبر، منعدمة التحمل؟ أهو الزمن من تغيّر، أم أن البشر هم الذين تغيّروا؟ صارت العلاقات «استهلاكية»، مثلها مثل الأشياء المادية التي نتخلص منها بمجرد انتهاء الحاجة إليها، أو حين تُصبح عائقًا أمام راحتنا. إنه شيء مُحزن جدًا.

الحقيقة التي يجب الاعتراف بها، أننا عندما نلجأ إلى «البلوك»، فنحن نحاول بكل قوة أن نقنع أنفسنا أن من قمنا بحظره لم يعد يعني لنا شيئًا، لكننا ندرك في قرارة أنفسنا أننا نهرب من المواجهة الحقيقية. نهرب من الأسئلة الصعبة، ومن المصارحات المؤلمة، من تحمل مسؤولية أخطائنا أو تقبل أخطاء الآخرين. نهرب من حقيقة أن الإنسان قد يُخطئ، قد يجرح، لكنه يبقى إنسانًا يستحق فرصة ثانية، ربما.

إنه لمن المُحزن حقًا أن نترك لأصابعنا القرار الأخير في علاقاتنا. أن تتحكم بنا أزرار الهواتف وصفحات التواصل الاجتماعي إلى هذا الحد. ليتنا كنا نمتلك شجاعة المواجهة، قدرة الاعتراف بالأخطاء، ورغبة حقيقية في الحفاظ على من نحب قبل أن تصل الأمور إلى نهاية قاسية مثل هذه.

ربما لم يخطر ببال «مارك» أن زرًا بسيطًا اخترعه ليُريحنا من المتطفلين سيكون سببًا في ألم من نحب يومًا، وربما لو كان يعرف ذلك، لتردد ألف مرة قبل أن يُطلقه. اليوم، أصبح «البلوك» خيارًا سهلًا للغاية، وفي نفس الوقت خيارًا يحمل في طياته الكثير من الألم.

لذا، أتمنى لو نفكر كثيرًا قبل أن نضغط ذلك الزر مرة أخرى، نتذكر أن العلاقات الإنسانية تستحق منا أكثر من مجرد زر، وأن الأشخاص الذين كانوا يومًا سببًا في سعادتنا، لا ينبغي أن يصبحوا بسهولة مجرد أسماء باردة في قائمة رقمية.

وربما يأتي يوم نكتشف فيه أن الحياة أعمق بكثير من قوائم الأصدقاء وقوائم المحظورين، وأن القلوب التي نحبها تستحق دائمًا فرصة أخرى. فرصة قد تمنحنا نحن أيضًا سلامًا نفسيًا حقيقيًا، بعيدًا عن الوهم الذي تمنحه لنا خاصية «البلوك» اللعينة.
google-playkhamsatmostaqltradent