recent
أخبار ساخنة

محرك بحث جوجل (Google search)

النسيان لا وجود له

Mahmoud
الصفحة الرئيسية
رسم كرتوني يظهر شابًا حزينًا يضع يده على قلبه، وخلفه سحابة تفكير تحتوي على ظلال أشخاص، في خلفية بدرجات الأزرق والبنفسجي تعكس أجواء الحنين والذكريات.

يُقال إن الإنسان قادر على النسيان، وإنه كلما مر الوقت، ذابت الذكريات وتلاشت، وهدأت العاصفة التي عصفت بقلبه يومًا. يقولون إن الزمن كفيل بأن يُنسي، بأن يُطفئ حرارة الذكرى ويُسكن ضجيج الحنين... لكن هل هذا صحيح حقًا؟ أم أن هذه كذبة نرددها لنكمل طريقنا دون أن ننهار؟

أنا لا أؤمن بالنسيان. أظنه أكبر خدعة اخترعها الإنسان ليتجاوز ما لا يمكن تجاوزه، وليتعايش مع ألم لا يُحتمل. النسيان ليس أكثر من غطاء هش نحاول أن نُلقيه فوق الجرح، لكنه لا يُخفيه. الجرح يبقى كما هو، ينبض، يتكلم، يذكّرنا بوجعه كلما مرّ طيف، أو وردت ذكرى، أو عاد صوت ضحكة أو نظرة أو كلمة.

الذكريات ليست مجرد صور في العقل، ليست أحداثًا نحكيها ونتجاوزها، بل هي شعور، نبض، أشياء تشبه الروح. هناك من رحل عنك، لكنك كل يوم تلتقيه في تفاصيلك، في الأماكن التي جمعتكما، في الأغاني، في رائحة معينة، في لون معين، في ذكرى عابرة لا تعرف كيف تسللت إليك بهذا العمق.

قد تتجاوز. نعم، قد تتوقف عن الحديث عنه، عن البكاء في الليل، عن مراجعة كل حرف وكل موقف، قد تقرر أن تبتسم وتمضي في حياتك، أن تملأ يومك بالأصدقاء والعمل والروتين، أن تضع مسافة بينك وبين الذكرى… لكنك لا تنسى. قد تتظاهر بأنك نسيت، وقد يصدقك من حولك، لكن قلبك لا يصدقك.

أنا لا أنسى. لم أنسَ. وكل من يقول إنه نسي، أظنه فقط أحسن إخفاء الشعور، لكنه لم يتخلص منه. لأن هناك أشياء لا تُنسى، لا يمكن تجاوزها بسهولة. هناك مواقف غيّرتك من الداخل، غيّرت رؤيتك للعالم، لنفسك، للناس. هناك أشخاص لم يكونوا مجرد أشخاص، بل كانوا جزءًا منك، من صوتك، من ضحكتك، من حزنك.

أحيانًا يكون النسيان أمنية. نُريد أن ننسى. نتمنى أن تموت الذكرى فينا حتى نرتاح، أن نصحو يومًا وقد اختفت كل ملامح الوجع، لكننا لا ننجح. الألم العنيد لا يرحل. كأن ما نمرّ به لا يُمحى، بل يختبئ فقط، ويظهر في أوقات لا نتوقعها.

تخيل أن تمر سنوات، وتظن أنك تجاوزت كل شيء، ثم فجأة، في لحظة هدوء، في مساء بارد، أو حين تسمع أغنية قديمة، يعود كل شيء دفعة واحدة، كأنك تعيشه لأول مرة. كأنك لم تتجاوز أصلًا، فقط كنت تؤجل اللقاء مع الألم.

حتى الأماكن تُذكّرنا. تمشي في شارع مررت به ذات يوم مع من تحب، فتعود الصور وكأنها تحدث الآن. تدخل مكانًا زرته مرة مع قلبك، فتشعر أن الخطى ما زالت هناك، أن الضحكات ما زالت تتردد، أن الوداع لم يُغلق الباب.

المشاعر لا تُمحى. قد تهدأ، قد تختبئ، لكنها لا تنتهي. أنت لا تنسى، بل فقط تعيش رغم الذكرى. وهذا هو أصعب أنواع التعايش، أن تبتسم وفي قلبك ذكرى تؤلمك، أن تمضي وفي داخلك شيء مكسور لم يُصلح.

النسيان كلمة نرددها كثيرًا لكننا لا نعيشها حقًا. نحن فقط نُبدل الألم بالصمت، والحنين بالسكوت، ونحاول أن نقنع أنفسنا أننا بخير، حتى لو لم نكن كذلك.

أحيانًا، تجد نفسك تبكي دون سبب واضح. تبكي وأنت لا تدري هل السبب هو ما فقدته قبل سنوات، أم أنك تعبت من التظاهر بأنك نسيت.

نعم، تمر الأيام، ونتغير، وننضج، ونُحسن التحكم في مشاعرنا، لكن هذا لا يعني أننا نسينا. القلب لا ينسى من أحبه. الروح لا تنسى من اقترب منها بصدق. حتى الجرح، إن التأم ظاهريًا، يبقى له أثر، علامة، لا تزول.

أتذكر تلك اللحظة التي شعرت فيها أنك لن تقدر على العيش بعد الخسارة؟ أتذكر كيف كنت تنهار في صمت، وتضحك أمام الناس؟ أتذكر كم من مرة كتبت ولم تُرسل، تحدثت إلى نفسك، راجعت المواقف، أعدت قراءة الرسائل القديمة، بحثت عن رائحة كانت تسكن ملابسك؟

أنت لم تنسَ. فقط تعلّمت أن تتعامل مع الألم.

وفي كل مرة تظن أنك نسيت، ستفاجئك الذكرى من جديد. قد تكون في مشهد، في صورة، في موقف مشابه، في قصة سمعتها، في شيء بسيط لكنه يحمل كل ما تحاول الهروب منه.

النسيان وهم. نحن فقط نعتاد. نعتاد الفراغ، الصمت، البعد، نعتاد أن نكمل الطريق بمفردنا. لكنه ليس نسيانًا.

في داخل كل واحد منا صندوق صغير، نغلقه بعناية، نضع فيه كل ما لا نريد أن يظهر، لكننا نعود إليه من وقت لآخر، دون قصد. نفتح ذلك الصندوق حين نكون وحدنا، أو حين يخذلنا الواقع، فنعود إلى ما كنا نحبه، إلى من كنا معهم، إلى ما فقدناه.

وكل مرة نقول: "نسيت"، ونحن نكذب على أنفسنا. لأننا ببساطة لا نستطيع.

هناك تفاصيل لا تُنسى. ضحكة، لمسة، نظرة، كلمة، موقف بسيط لكنه هزّك من الداخل. تلك التفاصيل الصغيرة أقوى من كل محاولاتك للنسيان.

قد تعيش حياة كاملة، وتتزوج، وتنجح، وتسافر، وتضحك، وتملأ أيامك بكل ما هو جديد… لكن في لحظة صدق، ستجد نفسك تعود هناك. إلى حيث بدأت القصة، إلى أول لحظة أحسست فيها أنك تعيش، ثم أول لحظة شعرت فيها أنك انكسرت.

كأن النسيان لا يليق بالبشر. نحن نُخبئ فقط، نُعيد ترتيب المشاعر، لكن لا نُفرّغها تمامًا.

حتى عندما نغضب ممن أحببناهم، ونقول إنهم لا يستحقون، وإننا لا نريد أن نتذكرهم، نبقى نتذكر. لأن الحب، حتى لو انتهى، يترك أثرًا لا يُمحى.

ربما نحن لا نحتاج أن ننسى، بل أن نتعلم كيف نعيش بالذكرى دون أن تقتلنا. أن نتعامل مع الحنين كصديق لا نزوره كثيرًا، لكن لا ننكر وجوده.

ربما النضج الحقيقي هو أن تتقبل أن هناك أشياء لا تنتهي، بل فقط تتغير أشكالها في داخلك.

أحيانًا، تكتب لتفرّغ ما لا يُقال. تبوح بما لا يفهمه أحد. تحاول أن تُخرج الألم من داخلك بكلمات، لأنك لا تقدر أن تصرخ.

وهكذا، نعيش بين الحنين والصمت، بين الذكرى والتظاهر بالنسيان، بين ما نشعر به حقًا وما نُظهره.

وفي كل مرة نتألم، نعود لنقول: النسيان مجرد كذبة جميلة.
google-playkhamsatmostaqltradent