recent
أخبار ساخنة

محرك بحث جوجل (Google search)

لماذا يسألنا الناس عن حياتنا؟

Mahmoud
الصفحة الرئيسية
رجل كرتوني في منتصف العمر يجلس بحيرة وتأمل، يحيط به علامات استفهام بألوان بنفسجية وزرقاء، تعبيرًا عن مشاعر الحيرة والضغط الناتجة عن كثرة الأسئلة الشخصية، مع خلفية متموجة تجمع بين اللونين البنفسجي والأزرق لتعكس عمق المشاعر النفسية.

لماذا؟

تبدأ بها كثير من حكاياتنا التي لا نهاية لها، تلك الكلمة التي تَبدو للوهلة الأولى عابرة، لكنها قادرة على إيقاف الزمان في لحظة، وعلى فتح أبواب موصدة من القلق والتردد والشك. سؤال يُلقى عرضًا كما تُلقى التحية العابرة الثقيلة، أو تُرسل في نظرة فضول لا تعرف الحياء، بينما هي في حقيقتها عبء ثقيل على القلب، تُزلزل اليقين، وتفتح متاهات لا نهاية لها من الحيرة والبحث عن إجابات لا نملك مفاتيحها.

يسألونك: "لماذا لم تشترِ سيارة؟"، كأن السيارة باتت معيار النجاح الأوحد، أو طريق الخلاص الوحيد من متاهات الحياة. لا يدركون كم مرة سرت على قدمي وأنا أختبر كل خطوة أخطوها، أقطع الطريق مشيًا، لا رغبةً في ترف أو رفاهية، بل لمجرد أن أصل. لا يرون في السيارة سوى المال، ولا يدركون أن ثمنها الحقيقي أوقات تضيع في عمل مرهق قد يسرق منك ما هو أغلى من المال، قد يأخذ منك راحة بالك التي لا تساوم عليها أبدًا.

يعودون ليسألوا: "لماذا لم تُرزق بالأبناء؟" يسألون وكأن الذرية قرار بيد الإنسان، أو خيار يتحكم به. سؤال يخرج منهم بسهولة غريبة دون مراعاة لما يتركه من ندوب داخل النفس. لا يعلمون أن هناك قلوبًا مثقلةً بالشوق تتألم من هذا السؤال، أرواحًا تحلم وتنتظر وتدعو الله ليلًا ونهارًا، لكن قدر السماء مختلف. لا يفهمون أن تأخر الإنجاب قد يكون اختبارًا في الصبر، وأن المحروم ليس بالضرورة مقصرًا، بل ربما أكثر اجتهادًا في الدعاء والتمني.

ويعودون بوجه آخر للسؤال: "لماذا لا تعمل في بنك؟ لماذا لم تلتحق بشركة كبيرة؟" كأن النجاح بات مجرد مكاتب فخمة وأبراج عالية. وكأن من لم يعمل في مؤسسة كبرى صار فاشلًا بالضرورة. لكنهم لا يدركون أن هناك من فضل راحة القلب على فخامة المكان، واختار وظيفة بسيطة يحفظ بها كرامته بدلًا من منصب كبير يُباع فيه الضمير مقابل حفنة نقود. هناك نجاحات خفية لا تعترف بها المعايير التقليدية، ولا يعرفها إلا من عاش تفاصيلها الدقيقة.

ويأتي سؤالهم الأصعب: "ألا تملك تأمينًا؟ ألا تمتلك معاشًا؟" كأن الحياة مجرد أرقام تُكتب على الورق، وكأن راحة القلب تأتي من الحسابات البنكية وليس من الطمأنينة التي تسكن أعماقنا. لا يعلمون أن البعض يعيش يومه بيومه، يسعى فقط ليدرك آخر الشهر، والبعض لا يفكر في تقاعد، بل في مجرد البقاء على قيد الحياة. هناك أمانٌ حقيقي لا يُكتب في وثيقة، بل يُزرع في القلب برضا عميق عن النفس وما قسم الله.

ولا يملّون من السؤال: "لماذا لم تتزوج؟"، كأن الزواج فرض اجتماعي لا يكتمل الإنسان دونه، أو وصمة يُحاسب عليها. لا يرون ما في القلوب من جروح، ولا يعلمون أن الوحدة قد تكون أحيانًا أفضل من حياة مع من لا يقدرك، أو لا يشعر بك، أو يطفئ نورك. الزواج ليس مجرد لقب، بل رحلة ومسؤولية ومشاركة، ومن العبث أن نخوضه لمجرد إرضاء عيون الناس.

"لماذا لا تتقاضى ثلاثين ألفًا؟" كأن الرزق مجرد أرقام، وكأن النجاح بات يُقاس بما نملك وليس بما نشعر. لا يدركون كم من ساعاتٍ قضيتها في عمل لم يقدّر جهدي، وكم من أمنيات صغيرة كادت أن تموت أمام عيني. الحياة ليست أرقامًا في حسابات بنكية، بل راحة في القلب وستر من الله، ورزقٌ يأتي بطرقٍ لا نعرفها، في كلمة طيبة، أو دعوة أم، أو صدقة في سر، أو صحة تنقذنا من حافة اليأس.

"لماذا لم تشترِ شقة؟" سؤال آخر يتكرر، كأن السكن مجرد جدران أو أوراق ملكية. لا يعلمون أن البيت حلمٌ يصعب تحقيقه، وأن الأرقام تركض أسرع من أحلامنا. البعض منا يعيش بالإيجار، وآخرون يسكنون بالأمل، وبعضهم بلا مأوى ولا صوت. لماذا يُحاسبوننا على ما ليس في يدنا؟ لماذا يظنون أننا لم نسعَ، أو أننا لم نرغب في الاستقرار؟

كثيرًا ما تسقط علينا أسئلة "لماذا؟" دون رحمة، دون أن يسألنا أحدٌ "كيف حالك؟" أو يقول "أسأل الله أن يكرمك"، أو يكتفي بالصمت احترامًا لما لا يعلمه. ألسنا جميعًا بشرًا؟ كلٌ منا يحمل في داخله قصة لا تُحكى، وألمًا لا يُقال، وسعيًا لا يراه سوى الله. لماذا نصرّ على قياس الحياة بمقاييس مادية لا روح فيها؟ ولماذا نعيش لإسكات الناس بدلًا من سماع أصوات قلوبنا؟

الرزق ليس رقمًا يُحصى ولا ميعادًا يُضرب، الرزق قسمة وحكمة وقدر. الرزق قد يكون في ابتسامة تأتيك من غريب، أو طمأنينة تسكن قلبك وأنت تواجه أصعب الأيام، قد يكون في لحظة صدفة تغير مسارك، أو في حب حقيقي يمنحك قوة الاستمرار.

والفرص ليست عادلة أبدًا، ولا توزع بالتساوي. فكم من مجتهد حُرم، وكم من محظوظ لم يجتهد لحظةً واحدةً فحصل على ما لم يحلم به غيره؟ لسنا نسخًا مكررة، لكل منا حكاية مختلفة، وألمٌ خاصٌ، وأملٌ يضيء داخله وإن لم يره أحد.

أرجوكم، قبل أن تقولوا "لماذا؟"، تذكروا أن وراء هذا السؤال قلبًا يحاول ويجاهد، وربما سقط كثيرًا لكنه ما زال يقاوم. تذكروا أن هذا السؤال قد يكون سببًا في فتح جراحٍ قديمة، أو سقوط دمعة مُرَّة، أو إعادة شخص إلى دوامة الشك في قدراته وسعيه.

بدلًا من "لماذا؟"، قولوا "وفقك الله"، قولوا "أنا بجانبك إن احتجت شيئًا"، قولوا "إن شاء الله الخير قادم". كلمات بسيطة، لكن أثرها عظيم في نفوسنا. في هذا العالم القاسي، نحن بحاجة لمن يرفق بنا لا من يحاسبنا، لمن يربت على أكتافنا لا من يوجه أصابع الاتهام. نحن بحاجة لمن يستمع أكثر مما يسأل، لمن يدرك أن الأرزاق بيد الله، لا بيد البشر، ولا بيد الوظائف والعقود.

ارحموا بعضكم بعضًا، فلكل منا قصة، ولكل منا وجعٌ لا يراه الآخرون. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
google-playkhamsatmostaqltradent